الشرف في اللغة هو المكان العالي الذي يشرف على الأشياء ويعلوها، من هنا جاءت كلمة (الشُّرْفَة) في البناء لأنه منها يستطيع المرء أن يَطَّلِعَ من علو على ماتحته، وكذلك القول (أَشْرَفَ البناء) أي علا وارتفع عن غيره كناطحات السحاب مثلاً، و كذلك (المشرف) لعلوه على مجموعة من الناس ومسؤوليته عن سير أعمالها، ولكن لو أردنا الذهاب لتعريفٍ أَشْمَلَ للشرف فيمكننا القول أنه (قيمة ما) يملكها أحد وتميزه عماحوله وتعليه، ومن هنا يختلف تصنيف الشرف باختلاف نوع القيمة، مادية أو معنوية، فمن الشرف المادي شرف السلطة الغاشمة الجبارة التي تعلو الناس بالسيف والبطش والاستبداد وكم هي الأمثلة التاريخية كثيرة على فراعنةٍ مستبدين في جميع العصور والبلدان (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ)، ومن أنواع الشرف المادي أيضاً هو شرف الغني الذي يعلو على الناس بالمال (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، أما الشرف في شقه المعنوي فله صنفان، الأول شخصي كشرف المرأة عند الرجل وعلو مكانتها وخصوصيتها لديه ولاسيما في مجتمعاتنا الشرقية، فإذا أراد أحد سب رجل تناول نساءه بالمذمة وشرف المرأة عندنا قد يؤدي إلى القتل.
لقد استفز اللاعب الإيطالي (ماركو ماتيرازي) اللاعب الفرنسي من أصول جزائرية (زين الدين زيدان) في المباراة النهائية لكأس العالم 2006 بسب أخته، فشهدنا يومها زيدان ينطح ماتيرازي برأسه على صدره نطحة موجعة، أدت لطرد زيدان من المباراة وخسارة فرنسا كأس العالم بسبب (أخت زيدان).
ومن الشرف الشخصي أيضاً (شرف الصداقة)، والصديق ليس كالأخ لأن الأخ لاتختاره، بل أنت تختار الصديق وتعليه حتى يبلغ من نفسك منزلة الشرف، شرف الصداقة، ومن الشرف الشخصي (شرف المهنة)، ولكل مهنة شيخ كارها (النقابة هذه الأيام) الذي لايعطي صك مزاولة المهنة إلا لمن امتلك احترافها وشرف أخلاقها معاً، فلاخير في الاحتراف بدون شرف الأخلاق.
أما الصنف الثاني للشرف المعنوي فهو الشرف المجتمعي، الذي يحوزه شخص معين من مجتمعه لأمور تميز بها في هذا المجتمع، فعلى سبيل المثال يعتبر لقب سيد القبيلة من مراتب الشرف المجتمعي في المجتمعات العشائرية، ولهذا السيد صفات من الكرم والحلم والشجاعة والعدل في قومه مايجعله يسود أفراد قبيلته، وشرفه من شرف القبيلة كلها.
لقد كانت قوة القبيلة وشرفها مع الأحنف بن قيس سيد بني تميم حين أغلظ القول لمعاوية بن أبي سفيان، وحين سئل معاوية عن صبره معه قال: (هذا الذي إذا غضب غضب له مئة ألف لايسألون فيما غضب).
في العصر الحديث حل الشرف الوطني مكان شرف سيد القبيلة (حول تعريف الوطنية راجع مقالي على زمان الوصل: الايديولوجيات الأممية وقتل الوطنية). لقد احتوت سوريا منذ تكونها العام 1920 قامات عالية حملت الشرف الوطني، فالشهيد يوسف العظمة وزير الحربية ذهب إلى ميسلون للحرب بجيش من المتطوعين على الرغم من موافقة الحكومة التي ينتمي لها آنذاك على شروط الجنرال الفرنسي غورو والأمر بحل الجيش، فالشرف عند العظمة ليس بالنصر بل بالرسالة التي سوف يحملها الموت حين قال: (أعلم أننا خاسرون، ولكن لا أريد أن يقال إن الفرنسيين دخلوا دمشق دون مقاومة)، وهو ما وصفه الشاعر عمر أبو ريشة:
شَرَفُ الوَثْبَةِ أَنْ تَرْضَي العُلَا غُلِبَ الوَاثِبُ أَمْ لَمْ يُغْلَبِ
لقد عاشت سوريا بعدها على الثأر لشرف دماء العظمة حتى استقلالها، لذلك ستجد يوسف العظمة حاضراً في قصائد جميع شعراء الجلاء، وقد لخص ذلك شاعر العاصي (بدر الدين الحامد) بقوله:
يَارَاقِداً فِي رَوَابِي مَيْسَلُونَ أَفِقْ جَلَتْ فَرَنْسَا فَمَا فِي الدَّارِ هَضَّامُ
لَقَدْ ثَأَرْنَا وَأَلْقَيْــنَا السَّـــوَادَ وَإِنْ مَرَّتْ عَلَى الليْثِ أَيَّـامٌ وَأَعْــوَامُ
إن الشرف هو من جعل سلطان باشا الأطرش القائد العام للثورة السورية يبدأ بانتفاضة 1922 ضد الفرنسيين لتسعة أشهر ويخوض معركة (تل الحديد) عند احتجازهم لأدهم خنجر الذي استجار بحمى سلطان، وقد كان شرفه عزيزاًً فعند سؤاله عن سبب رفضه إعادة بناء داره الذي دمرته الطائرات الفرنسية أجاب: (إن الدار التي لم تستطع حماية أدهم خنجر لا تستحقّ أن يُعاد بناؤها).
إن حَمَلَةَ الشرف الوطني كانوا حاضرين على امتداد تاريخنا السوري حتى أيامنا الآن، سواء كانوا قادة ثورات أو جنوداً سقطوا دفاعاً عن حدود سوريتهم وأرضها، أو معارضة للاستبداد قضت في السجون، ولقد كان الثأر لهذا الشرف محركاً للكثيرين، ولئن احتفل السوريون بسقوط الأسد اليوم فهم يحتفلون سواء اتفقوا مع الحكومة الحالية أم لم يتفقوا بالثأر لشرفهم من جمرات الاستبداد.
هذا عن الشرف الوطني ولكن هنالك شرف آخر ينتمي للشرف المعنوي المجتمعي وهو (شرف العلم والإبداع)، فكل مجتمع يعلي أهل المعرفة والمبدعين فيه، كما قال الشاعر (بدوي الجبل) في رثائه لأبي العلاء المعري:
الدَّهْرُ مِلْكُ العَبْقَرِيَّةِ وَحْــدَهَـا لَا مِلْـكُ جَـبَّارٍ وَ لَا سَـفَّـاحِ
وَالكَوْنُ فِي أَسْرَارِهِ وَ كُنُوزِهِ لِلْفِكْرِ لَا لِوَغَى وَ لَا لِسِلَاحِ
وإن أصحاب شرف العلم يملكون كبرياء هذا الشرف ولاشرف لهم بدون هذا الكبرياء، الذي قد يصل بهم للموت، وفي التاريخ أمثلة كثيرة. ويعتبر المعلم الجامعي أحد حملة شرف العلم والإبداع (لأهمية المعلم الجامعي راجع مقالي على زمان الوصل: هل يبدأ عطار التعليم العالي بإصلاح ماأفسد الدهر).
يبقى القول أنه بين الشرف المادي والشرف المعنوي، فإن الشرف المادي آني ويسقط بسقوط أسبابه، السلطة أو المال، بينما يبقى الشرف المعنوي المجتمعي بشقيه الوطني والعلمي الإبداعي متوارثاً تتحدث به الأجيال لأن أساسه الأخلاق وحماية المجتمع وتطوره.
إلا أن سؤالاً ملحاً يأتي هنا، فأنا في حديثي السابق عن الشرف المجتمعي إنما عنيت نسبة ضئيلة (1%) من المجتمع علت بالتميز، فماذا عن عامة الشعب؟
للإجابة عن هذا السؤال يجب التمييز بين مجتمعات الاستبداد ومجتمعات العدالة والقانون (راجع مقالي على زمان الوصل:الاستبداد والعصبيات- قصة سورية)، فالاستبداد يحاول مااستطاع أن يسلب الشرف من المجتمع بإفساده، فيطفو اللون الأسود على السطح وتفوح رائحة المستنقعات القذرة، لذلك على جميع المجتمعات التي ترغب بالحفاظ على شرفها الدفاع عن القانون والذي هو شرف المجتمعات المتحضرة، هذه المجتمعات التي يسير قادتها بدون حراسة لأن الناس تحرسهم ماحافظوا على القانون، فمما يروى أنه لما جيء بالهرمزان أسيراً إلى سيدنا عمر بن الخطاب وجده نائماً دون حراسة فقال: (يا عُمَرْ قَدْ عَدِلْتَ فَأَمِنْتَ فَنِمْتَ)، فإن عدل عمر جعل الناس تحرسه لأنهم بذلك يحرسون فيه القانون الذي يحمي شرفهم من الاعتداء، فمجتمعات بلا قانون هي مجتمعات بلاشرف.
بعد مقدمتي الطويلة عن الشرف وبالعودة إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، يحق لنا السؤال أين أوصل القائمون عليها شرف المؤسسة؟.
لقد كتبت مقالات سبع كان آخرها على زمان الوصل بعنوان (موفدو التعليم العالي: برسم وزير العدل)، وقمت بوصمها بعار مخالفة القوانين والدستور في حقوق الموفدين، وزدت على ذلك باتهامها ممارسة التكسب اللامشروع والربا الفاحش من مطالبة الموفدين بما يفوق 400 ضعفاً مادفعته عليهم قبل الثورة وقد بينت ذلك بالتفصيل الممل في مقالاتي السابقة، وزاد على ذلك مقالة في جريدة عنب بلدي بعنوان (موفد سوري يروي رحلته من حلم العودة إلى صدمة الرفض) كيف أن موظفاً رفض إعادة موفد عائد من الإيفاد إلى عمله على الرغم من حصوله على موافقة وتواقيع أهل العزم القائمين على الوزارة بمن فيهم الوزير نفسه، كل هذه الصفعات تلو الصفعات والوزارة صامتة لاترد بشكل رسمي علني على أي منها، فهل هذا الصمت مُشَرِّف؟.
لقد كان شرفاء الماضي يدعون الآخرين للمبارزة العلنية في حال تعرضوا للإهانة، فالجميع يجب أن يشهد أن هؤلاء الشرفاء لايقبلون الإهانة، حتى ولو كان في ذلك مقتلهم، لقد قُتِلَ المتنبي بسبب تذكيره ببيته الشهير (الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم) فأبي لشرفه في هذا البيت إلا أن يقاتل خصمه فيموت، وقد مات شاعر الروس العظيم الكسندر بوشكين بالمبارزة العلنية على ألا يقبل إهانة خصمه له، وبالمقابل فإن وزارة التعليم العالي الحالية لاتملك شرف المبارزة بالرد الرسمي العلني على مايقال عنها، أو أنها وزارة ميتة قد جاز عليها قول المتنبي:
مَنْ يَهِنْ يَسْهُلِ الهَوانُ عَلَيْهِ مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ
لقد خاطبنا وزير التعليم العالي المختص بالإخصاب لأكثر من مرة أن يعالج عقم الوزارة في قضية الموفدين، ولكن يبدو أن طب الوزير عاجز عن إخصابها، لذلك توجهت في مقالي السابق وأعيد التوجه ثانية إلى السيد وزير العدل أن يعيد شرف القانون الذي تعمل وزارة التعليم العالي على إسقاطه من خلال مراسيم أسدية سابقة لاقانونية ولادستورية تمارس الربا الفاحش والتكسب اللامشروع، فكما أسلفت أنه لاشرف للمجتمعات بلا قانون، فلا تسمحوا لوزارة التعليم العالي أن تجركم لمستنقع لاقانونية مراسيم الأسد الآسنة.
إن وزارة التعليم هنا تخاصم الموفدين الذين ملكوا شرف العلم والإبداع الذي تحدثت عنه أعلاه، فحصلوا على إيفادهم بعد مفاضلة رسمية أساسها التفوق كما يحدث في البكالوريا، وحصلوا على درجاتهم العليا من جامعات عالمية مرموقة، اعترفت بتفوقهم وتميزهم، واحتفلت بهم ورفعت لهم القبعة عند تخرجهم بأعلى درجة علمية يحصل عليها المرء، جامعات في دول فيها شرف للقانون وللتعليم وليست في دول مستبدة، وماهؤلاء الذين يشككون في ذلك إلا لأنهم لايملكون هذا الشرف، شرف المعرفة.
فيا أيها السيد وزير العدل احمي الشرف الذي ائتمنت عليه، شرف القانون.
د. مصطفى حسين بطيخة - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية