أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

سوريا بعد رفع القيود: بين يد أميركية ممدودة وذاكرة سورية قلقة من ثمن الاحتواء

سوريا اليوم لا تُقرأ من العناوين، ولا من بيانات البيت الأبيض، ولا حتى من ابتسامات المبعوثين الدوليين في الصور الجماعية؛ بل تُقرأ من "الفراغات". من الأشياء التي لم تُقَل بعد، ومن الضغوط التي لم تُمارَس، ومن الصمت الأميركي حين يُفترض أن يكون الصوت عالياً.

رفعت واشنطن العقوبات، وأُزيل "قانون قيصر"، فُتحت القنوات مع "هيئة تحرير الشام"، ثم أُخرج اسمها من لوائح الإرهاب بهدوء يشبه مَن يبدّل مسار سفينة دون أن يُسمع صوت دفّتها. كل ذلك حدث بسرعة لافتة، لكن ما لم يحدث هو الأهم: لا ضغط حقيقياً على "قسد"، ولا كوابح جدية لإسرائيل، ولا رؤية مُعلنة لمآل الدولة السورية. هنا يبدأ القلق ولا ينتهي.

الولايات المتحدة لا تتحرك بدافع العاطفة، ولا بدافع الأخلاق، ولا حتى بدافع "مساعدة الشعوب" كما تهوى الادعاء؛ بل تتحرك حين تشعر أن الفوضى صارت أغلى من إدارتها، وأن استمرار الانهيار يهدد مصالح أكبر: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة، توازن القوى مع روسيا، وممرات النفوذ مع الصين. سوريا، بعد سقوط نظام الأسد، لم تعد عبئاً أخلاقياً، بل صارت ساحة مفتوحة قد تنفلت من السيطرة إذا تُرِكت بلا سقف.
رفع العقوبات لم يكن مكافأة، بل "إعادة ضبط". هو أشبه بفك قيد من قدم شخص، لا لكي يركض، بل لكي يُعاد توجيهه. الاقتصاد السوري كان يحتضر، والاحتضار الطويل يولّد وحوشاً: اقتصاد ظل، أمراء حرب، وشبكات تهريب عابرة للحدود. واشنطن أدركت أن الخنق لم يعد وسيلة فعالة، وأن التحكم عبر "التنفس المشروط" أنجع؛ أسمحُ لك أن تتنفس، لكني أُبقي الرئة في يدي.

التعامل مع "هيئة تحرير الشام" يدخل في هذا السياق؛ لم يكن اعترافاً أخلاقياً ولا قناعة أيديولوجية، بل قراءة باردة للواقع: هذه القوة موجودة، منضبطة نسبياً، وتملك بنية حكم محلية، لذا يمكن احتواؤها، وتعديل سلوكها، واختبارها. البديل؟ فراغ تتسلل إليه تنظيمات أشد تطرفاً، أو فوضى لا يمكن التنبؤ بمسارها. واشنطن لا تحب اللاعبين "الأنقياء"، بل تحب القابلين للترويض.

لكن لماذا هذا التراخي مع "قسد"؟ ولماذا الصمت أمام التمدد الإسرائيلي؟ هنا تتضح الصورة أكثر. الولايات المتحدة لا ترى سوريا كوحدة سياسية مكتملة بعد، بل كمساحة إدارة مؤقتة. "قسد" ورقة ضغط لا تريد حرقها سريعاً، وإسرائيل أداة ردع إقليمي لا تريد تقييدها الآن. التوازن عند واشنطن ليس عدلاً، بل "وظيفة"؛ فكل طرف يُستخدم بقدر ما يخدم اللحظة.

هذا المشهد يذكّر، بشكل مريب، بسيناريو "الاحتواء الناعم" في البوسنة. بعد الحرب، لم تُفرض حلول جذرية، ولم تُفكك البنى العميقة للصراع، بل تُرِكت الدولة هشة، مُقسّمة دستورياً، تُدار بالأكسجين الدولي. لا حرب، لكن لا حياة سياسية طبيعية؛ لا انفجار، لكن لا شفاء. البوسنة صارت دولة واقفة على عكاز دولي، لا تسقط ولا تمشي.

الخطر أن تُدفع سوريا إلى مسار مشابه: دولة بلا سيادة كاملة، بلا قرار مركزي قوي، وبلا قدرة على فرض إرادتها على كامل جغرافيتها. تُدار بالتفاهمات لا بالقانون، تُهدّأ ولا تُبنى، ويتم احتواء أزماتها بدل حلّها. وهنا تكمن العاقبة غير المحمودة: جيل كامل يعيش في منطقة رمادية؛ لا حرب ولا سلام، لا استبداد صريحاً ولا حرية حقيقية.

الولايات المتحدة لا تخطط لتدمير سوريا، ولا لبنائها كما يحلم السوريون، بل تخطط لشيء أبسط وأخطر في آن: ألا تعود سوريا "مشكلة".. لا أكثر. إذا استقرت بما يكفي لعدم تصدير الفوضى، وإذا بقيت منضبطة ضمن خطوط حمراء إقليمية، فهذا كافٍ من وجهة نظر واشنطن. أما العدالة، والسيادة، ووحدة القرار، فهذه ملفات مؤجلة دائماً.

السؤال الحقيقي ليس: ماذا تريد أميركا من سوريا؟ بل: ماذا يريد السوريون لأنفسهم في ظل هذا الواقع؟ لأن أخطر ما في الاحتواء الناعم أنه يُغري بالكسل السياسي، ويُخدّر الألم دون معالجة الجرح، ويجعل الجميع في حالة انتظار، بينما الزمن يعمل ضد الدول الهشة.

إذا لم تُنتج سوريا مشروعها الوطني بسرعة، وبوضوح، وبجرأة، فإن الآخرين سيفعلون ذلك نيابة عنها، ليس بدافع الشر، بل بدافع المصالح. والتاريخ لا يرحم الدول التي تترك مهمة تعريف نفسها للآخرين.

سوريا اليوم أمام لحظة دقيقة؛ ليست لحظة انتصار ولا لحظة هزيمة، بل هي لحظة اختبار. إما أن تتحول إلى دولة تُدار من الخارج بأدوات داخلية، أو إلى دولة تفاوض العالم من موقع الندّية، ولو تدريجياً. الفارق بين الخيارين ليس في نوايا واشنطن، بل في وعي السوريين أنفسهم.

وهنا، فقط هنا، يصبح السؤال موجعاً وصادقاً: هل نريد الخروج من الاستبداد… أم فقط الهروب منه؟

أحمد محمود الأحمد - زمان الوصل
(10)    هل أعجبتك المقالة (455)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي