أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

بين ضرورة الدولة واستحقاق العدالة: هل يمكن منع الانهيار دون دفن الحقيقة؟

سجن المزة العسكري - الأناضول

بعد أكثر من عقد ونصف على المقتلة السورية، تقف سوريا اليوم أمام سؤال وجودي لا يمكن القفز فوقه: كيف يمكن إعادة بناء الدولة دون أن يتحول هذا البناء إلى غطاء لنسيان الجرائم أو إعادة إنتاج الاستبداد؟

في الحالة السورية، تمثل الدولة ضرورة وجودية قبل أن تكون خياراً سياسياً؛ فقد أثبتت سنوات الانقسام، وتفكك السلطة، وتعدد مراكز القوة، أن غياب السلطة السياسية الجامعة لا يفضي بالضرورة إلى الحرية، بل غالباً إلى الفوضى، ولا يفتح طريق العدالة، بل يوسع دائرة العنف. من هنا، تصبح استعادة الدولة شرطاً أولياً لمنع الانهيار الكامل، وحماية ما تبقى من المجتمع السوري.

في هذا السياق تحديداً، يمكن فهم المقولة بأن "الشرعية تسبق العدالة زمنياً"، لا بوصفها قيمة أعلى منها، بل باعتبارها الإطار الذي يسمح أصلاً بطرح العدالة كمشروع قابل للتحقق. فالشرعية هنا لا تُختزل بانتخابات مكتملة أو نصوص دستورية جاهزة، بل تُقاس بقدرة السلطة على فرض حد أدنى من النظام، وحصر السلاح، وضمان الأمن العام، ومنع الانتقام والفوضى.

غير أن الخطر الحقيقي في الحالة السورية يكمن في تحويل هذه الأولوية إلى ذريعة. فالتجربة السورية، بما انطوت عليه من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؛ من قتل جماعي واعتقال وتعذيب وإخفاء قسري وتهجير واسع، تجعل من أي تأجيل للعدالة بلا سقف زمني أو سياسي واضح مدخلاً لإنكار الضحايا، لا مجرد خطوة انتقالية.

العدالة في سوريا ليست مطلباً نظرياً ولا ترفاً حقوقياً؛ إنها مسألة وجودية لمجتمع تعرض لانتهاكات ممنهجة على مدى عقود بلغت ذروتها بعد عام 2011. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن العدالة القضائية الشاملة لا يمكن أن تتحقق فوراً في دولة خارجة من حرب مدمرة، بمؤسسات منهكة، وقضاء يحتاج إلى إعادة بناء، وملفات جرائم تفوق القدرة الفورية على المعالجة.

من هنا، يمكن الحديث عن دولة "ناقصة العدالة مؤقتاً"، بشرطين لا ثالث لهما:
- أولاً: أن يكون هذا النقص محدداً زمنياً ضمن مسار انتقالي واضح ومعلن.
- ثانياً: ألا يمس الحد الأدنى غير القابل للتنازل من العدالة، وعلى رأسه رفض الإفلات من العقاب على الجرائم الجسيمة.

فأي دولة سورية جديدة تتغاضى عن محاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، أو تعيد تعويمهم سياسياً أو أمنياً، تفقد شرعيتها الأخلاقية قبل القانونية.

في الحالة السورية، العدالة الانتقالية ليست مرادفاً لمحاكمات فورية فقط، بل هي مسار متكامل؛ فتأجيل العدالة قد يكون مفهوماً، أما دفنها فليس خياراً، لأنه يعني نقل الصراع إلى المستقبل بدل معالجته. وعندما تستقر الدولة، وتتوحد السلطة، وتُستعاد المؤسسات، تنتفي كل الاستثناءات، وتصبح العدالة وسيادة القانون شرطاً للشرعية لا نتيجة لها، ويغدو الإصلاح القضائي والمحاسبة واستقلال القضاء التزاماً لا يقبل المساومة.

إن التحدي السوري اليوم ليس في الاختيار بين الدولة والعدالة، بل في إدارة العلاقة بينهما دون التضحية بأي منهما. فالدولة التي تُبنى على النسيان القسري ستنهار من الداخل، والعدالة التي تُرفع شعاراً بلا دولة ستبقى صرخة في الفراغ. وحده المسار الذي يعترف بالماضي، ويحمي المجتمع في الحاضر، ويفتح باب المحاسبة في المستقبل، يمكن أن يؤسس لسوريا قابلة للحياة، لا دولة مؤقتة فوق ركام المأساة.

فراس حاج يحيى - زمان الوصل
(78)    هل أعجبتك المقالة (9)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي