أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

غسيل السمعة… حين يرتدي الخير قناع النفوذ

أرشيف

في إحدى الفعاليات التي أُقيمت أيام الثورة السورية عام 2012، دعمًا لإحدى المحافظات حينها ، كنتُ حاضرًا بصفتي رئيسًا لفريق شباب الجاليةٍ الداعمة للثورة آنذاك، كهيئة داعمة وراعية للحملة. في تلك الأمسية، عُرض مجسّمٌ مصنّع بوصفه رمز لمعْلمٍ تاريخي من المحافظة في مزادٍ علني، طبعاً كدعوةً للتكافل والرمزية لا صفقة.حيث تنافس الحضور، وارتفعت الأرقام، إلى أن رست المزايدة على رجل أعمالٍ من محافظةٍ أخرى. هنا، حدث ما لا يُقال عادةً في العلن: أقدم أحد المنظّمين - وهو من أبناء المحافظة صاحبة الحملة -على رفع الرقم من عنده، رغم علمه المسبق بأنه لن يدفع ليرة منه، ولن يُسأل عنه، لأن “الحملة” لهم، ولأن الصورة اكتملت، ولأن الحكاية التي يجب أن تُروى أهم من الحساب الذي سيُراجع.
تبدو القصة تفصيلًا صغيرًا، لكنها في الحقيقة مكثّفٌ دقيق لخللٍ أكبر، نراه اليوم يتكرّر بأشكالٍ أكثر فجاجة في حملاتٍ متعددة في المحافظات السورية بعد التحرير، تُقام باسم التضامن، وتُدار بمنطقٍ آخر.

ليس ثمة شكّ هناك في أمرٍ واحد وهو: أن السوريون - أفرادًا ومجتمعات - يملكون طاقة تكافلٍ هائلة، أثبتتها سنوات الحرب والحصار والانكسار. هذه الطاقة صادقة، نبيلة، ومستعدّة للبذل دون حساب.

لكن المشكلة لا تكمن هنا. المشكلة تبدأ حين تُنزَع هذه الطاقة من سياقها الأخلاقي، وتُزجّ في سياقٍ سياسيٍّ غير مُعلن.

كثير من الحملات التي نشهدها اليوم لا يمكن فهمها بوصفها أفعالًا خيرية خالصة، بل بوصفها نتاج فراغٍ بنيوي:
عجز الدولة المركزية حالياً عن القيام بوظائفها الأساسية بعد التحرير وسنوات الحرب الطويلة، وغياب آليات شفافة لإعادة توزيع الموارد، فتح الباب أمام ما يمكن تسميته: اقتصاد الحملة؛ اقتصادٌ لا تحكمه للأسف برأيي ووفق ما يظهر منه، قواعد العمل الخيريالمنضبط، بل: منطق الاستعراض وسوق السمعة وإعادة إنتاج النفوذ.

في هذا الاقتصاد، لا يكون "التبرع" دائمًا فعلًا ماليًا، بل فعلًا رمزيًا. المنصّة، الكاميرا، التصفيق، واللقب، كلها عملاتٌ متداولةورائجة في سوق اليوم.

وهنا تظهر مفارقة خطيرة: أنه ليس كل ما يُعلن عنه قد دُفع فعلًا، كما لا تُراجع الأرقام إلا بوصفها "سردية ناجحة"، لا حسابًا دقيقًا.

بهذا المعنى، نحن لا نواجه فقط إمكانية غسيل أموال - وهو أمر إن وُجد فله أدواته القانونية - بل نواجه ما هو أخطر وأوسع: غسيل سمعة.

غسيل سمعة  لأشخاص، ولمراكز نفوذ، ولمساراتٍ سياسية، تُعاد صياغتها في الحملات عبر خطاب "الخير"، بينما تُدار هي بمنطق المصلحة.

حين تتدخل السلطة - مباشرةً أو عبر شبكاتها - في تنظيم هذه الحملات، فإنها لا "تنظمها" فقط، بل تُعيد توجيه معناها. إذن يتحوّل الفعل من تضامنٍ مجتمعيٍّ حر، إلى أداةٍ ضمن اقتصادٍ سياسي واضح المعالم. عند هذه النقطة، لا تعود الحملة تعبيرًا عن المجتمع، بل مرآةً لميزان القوة داخله.

وهنا تكمن المأساة: أن تُستثمر طاقة الناس الصادقة في خدمة سرديات لا تمثّلهم، وأن يتحوّل التكافل من قيمةٍ جامعة إلى ساحة مزايدات.

إذا أردنا قراءة هذه الظاهرة بواقعيةٍ سننية، فثمّة ميزانان لا يحتملان التلاعب:
1. ميزان التحقق: ليس المهم ما قيل على المنصّة، بل ما دخل فعلًا حسابًا واضحًا، وما صُرف، وكيف، وعلى من.
2. ميزان الأثر: ليس المهم نجاح الحملة إعلاميًا، بل ما تغيّر في حياة الناس بعد أشهر، لا بعد ساعات.
السنن لا تقيس النوايا، بل النتائج. ولا تحاسب المشاعر، بل الآثار.

ولا ادل على ذلك من صندوق التنمية السوري(https://syrfund.gov.sy/ar) ، منذ اطلاقه في بداية أيلول سبتمبر والى الان بعد أكثر من ثلاثة أشهر ونصف، ستجد أن قيمة التعهدات فاقت 85 مليون دولار، لكن لم يتم سداد اكثر من 25 مليون منها فقط، وجميع ما سدد هو من الأرقام البسيطة، في حين أن الأرقام الكبيرة ما زالت على خانة التعهدات... فضلاً عن نقاش ماذا أنجز بها إلى الآن.

ولكي لا يبقى هذا المقال مجرّد تشكيكٍ نظري في الآليات، ولا نقدًا أخلاقيًا معلقًا في الهواء، فإن تفكيك ظاهرة غسيل السمعة — بوصفها أخطر من غسيل الأموال في اقتصاد التكافل — يقتضي انتقالًا إلى مقترحاتٍ عملية قابلة للتنفيذ.

وأولى هذه الخطوات أن تبادر الحكومة إلى جردٍ عام وشامل لجميع حملات الدعم التي أُطلقت، مع وقف تداول الأرقام غير المحققة، وضبط الفارق بوضوح بين التعهدات والأموال المسددة فعليًا.

كما يقتضي الأمر منح جميع المتعهدين مهلةً زمنيةً قصيرة ومحددة للسداد، تُعلن بشفافية ودون مواربة. وبعد انقضاء هذه المهلة، ينبغي الإعلان عن أسماء المتخلفين عن الالتزام بصيغةٍ مسؤولة ترفع وهم السمعة المصنوعة، وتُخضع التقصير لمساءلة أدبية علنية، ما دمنا نفتقر — في اقتصاد الخير — إلى أدوات قانونية ومادية صارمة للمحاسبة.

وعلى التوازي، يصبح من الضروري متابعة المشاريع المناطقية التي خُصصت لها أموال الحملات، ليس بوصفها إنجازاتٍ خطابية، بل بوصفها أثرًا واقعيًا قابلًا للتتبع والتقييم. فبهذا وحده يمكن إعادة التكافل إلى معناه الأخلاقي، وفصله عن اقتصاد النفوذ، واستعادة ثقة الناس قبل استنزاف طاقتهم.

كلمة أخيرة وليست آخرة؛ 
نعم؛ حلب ستّ الكل، وأبشري حوران، وريفنا بيستاهل، ودير العز، وفداء لحماة، وأربعاء حمص، ودمشق قلب سوريا… وكلُّ محافظةٍ سورية، بلا استثناء، تستحق أن تُدعَم بكرامة، لا بمنّة، وبصدقٍ لا باستعراض.

وإذ نطرح الأسئلة كسوريين، فلا نفعل ذلك تشكيكًا في نوايا جميع الناس، ولا طعنًا في طاقة التكافل الأصيلة لدى السوريين، بل انطلاقًا من مسؤوليةٍ أخلاقيةٍ ووطنية، تضع الذمّة العامة موضع المساءلة، لا الأشخاص.

ما أحاوله – بلا ادعاء ولا مصادرة - ههنا، هو  فقط فتح نوافذ رؤيةٍ أُغلِقت عند البعض؛ إمّا بداعي البساطة وحسن النيّة، أو بسبب غياب الخبرة السياسية والقيادية في إدارة الشأن العام، أو تحت وطأة شعورٍ وطنيٍّ جارف، جرى توظيفه لدعم مسارٍ الثورة والتحرير، حتى بات مجرد السؤال نفسه يُعدّ خروجًا عن الوطن، والمساءلة تُفهم وكأنها خصومة ثورية.

غير أنّ التكافل، متى لم يُحمَ من التسييس، ولم يُضبط بميزان الشفافية والمحاسبة، يتحوّل - شاء القائمون عليه أم أبوا - إلى سلطةٍ مقنّعة. والسلطة، حين ترتدي ثوب الخير دون ميزانٍ يحدّها، تكون في أثرها أشدّ قسوةً من السلطة العارية.

وهذا، في جوهره، ليس تعبيرًا عن قوة المشروع، بل عن هشاشته؛ إذ لا يخشى السؤال إلا من لم يستقر بعد على ميزانٍ عادل.

أيمن قاسم الرفاعي - زمان الوصل
(7)    هل أعجبتك المقالة (4)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي