في دولته الباشا ذات الحدود المترامية بين الوهم والسراب، قُتل أنور الشاعر.
لم يُقتل والد الطفلات الثلاث ويُيَتَّمن لأنه حمل سلاحًا، بل لأنه حمل كلمةً وفكرًا.
ففي ربوع هذه الدولة أم العلمانية، أضحى الرأي جريمةً، والكلمة مُحرَّمةً حد الموت. أصبح القتل مجرد لعبة في نظر من أدمنها، والصمت هو طوق "النجاة" الوحيد الذي يروّج له حراس الوهم.
أنور الشاعر لم يكن عدوًا لطائفته بل كان ابنها المخلص، ولم يكن خصمًا لمجتمعه، بل كان معارضًا لنهج يدّعي الحماية وهو يمارس الوصاية، ويتغنى بالخصوصية وهو يبني أسوار القطيعة، ويزعم الاعتدال بينما يكمم الأفواه ويعيد إنتاج أكثر أنظمة القمع فجاجةً في تاريخ سوريا بكل تفاصيلها.
المفارقة الفاضحة أن من يوزّعون صكوك "التطرف" على خصومهم من مهندسي سياسة الباشا، هم أنفسهم من يقدّمون أبلغ الدروس فيه.
فأي تطرف أشد من تخوين كل من يختلف وقتله بدم بارد؟
وأي راديكالية أقسى من تحويل المجتمع إلى درع بشري، والاحتماء بالناس لقتل الناس؟
إن النهج الذي يرسّخه الهجري ليس خروجًا على نظام الأسد، بل استنساخ له: وما خفي أعظم.
نفس المنطق، نفس الأدوات، نفس اللغة المبطَّنة بالخوف، ونفس تحويل "الحماية" إلى ذريعة للهيمنة.
وكيف لا، وقد وجد شبيحة الأسد في عباءة الهجري ملاذًا جديدًا، بعد أن ضاقت بهم المساحات، فغيّروا الشعارات ولم يغيّروا السلوك؟
ما يجري اليوم ليس دفاعًا عن السويداء، بل استثمارًا فيها وتجارة مفضوحة بآلامها.
أجل، ليس حمايةً لأهلها، بل اختباء خلفهم.
فمن يقتل معارضيه أو يبرّر قتلهم، لا يبني كرامة، بل يزرع رعبًا مؤجّلًا سينفجر في وجه الجميع.
الضحية هنا ليست أنور الشاعر وحده، بل فكرة أن يكون الاختلاف ممكنًا دون ثمن دموي في عهد القائد العسكري الديني صاحب نظريات العلمانية المحاكة من خيوط عباءة دخيلة ومزيفة وبعيدة عن تاريخ من عرفنا من أحرار جبل العرب.
الضحية اليوم هي الثقة التي تُهدَم بين أبناء الوطن الواحد، حين يُدفَع مجتمع كامل إلى مواجهة محيطه باسم الخوف، وباسم سردية "نحن أو الفوضى والتطرف". أي إجرام أكثر من أن تُغتال الكلمة في حناجر الأحرار!
ومع كل ذلك، إني لألمح الأمل مع كل هذا الضجيج وغبار المأساة الذي غطى عين الشمس.
فحتى وإن استُشهد أنور الشاعر، سيولد الآلاف ممن يعرّون هذا الجنون اللامتناهي، ويقولون بوضوح: لسنا وقودًا لمعارك وهمية، ولسنا غطاءً لسلطة تبيعنا يوميًا، ولسنا جدارًا يُبنى لعزلنا عن وطننا.
الخلاص لا يكون باستبدال طاغية كبشار الأسد بوصيّ، ولا باستبدال دبابة بعمامة، بل بمحاسبة كل من انتهك، من أصغر معفِّش إلى أكبر سارق أحلام وهادم وطن.
الخلاص يبدأ حين نفهم أن معارضة السلطة لا تعني معاداة الوطن، وأن أخطر من يعادي الوطن هو من يدفع أبناء ملته إلى المحرقة باسم حمايتهم.
الرحمة لروح أنور الشاعر، ولكل من قُتِل لأنه قال "لا".
ولعل دمه يكون تذكيرًا أخيرًا بأن البلاد التي تقتل الكلمة، لا يمكن أن ترى النور، إلا إذا قررت أخيرًا أن تُبصِر الحياة وتقول لا للحاكم الديني العسكري.
محمد رافع أبوحوى - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية