أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

هل ننتظر الزلزال المقبل في صمت؟

أرشيف

تواجه سورية، بحكم موقعها الجيولوجي على امتداد صدوع نشطة في شرق البحر المتوسط، خطراً زلزالياً متكرّراً لا يمكن تجاهله أو التقليل من أهميته. فالزلزال المزدوج الذي وقع في السادس من شباط عام 2023 على الحدود التركية السورية أعاد هذا الخطر إلى صدارة المشهد بعد أن أسفر عن آلاف الضحايا وخسائر مادية واسعة النطاق في عدد من المحافظات السورية. وقد أظهرت هذه الكارثة بوضوح أنّ المشكلة لا تكمن في الزلزال بوصفه ظاهرة طبيعية فحسب بل في هشاشة البيئة العمرانية التي يعيش فيها ملايين المواطنين.

‎إذا عدنا إلى التاريخ يتضح أنّ المدن السورية الكبرى وفي مقدّمتها دمشق لم تتغيّر ملامحها بفعل الحروب فحسب بل أيضاً بفعل الزلازل المدمّرة التي ضربت المنطقة على فترات متباعدة. فثمة شواهد تاريخية متواترة على زلازل قوية أعادت رسم الخريطة العمرانية لدمشق ومدن الشام مخلّفةً وراءها خسائر بشرية وعمرانية جسيمة. هذا الإرث التاريخي يؤكد أنّ الزلزال القادم ليس احتمالاً نظرياً بل واقعاً متكرراً يتفاوت في شدّته وتوقيته ولكنه حتمي في مبدئه.

‎المخزون البنائي في سورية ولا سيّما في المدن الرئيسة يتكوّن في معظمه من مبانٍ خرسانية مسلّحة متعدّدة الطوابق وأحياء سكنية ذات كثافة عالية وأبنية قديمة من الحجر أو الطوب إضافة إلى مناطق واسعة من السكن العشوائي. جزء كبير من هذا المخزون شُيّد قبل اعتماد الكود السوري للزلازل وتطبيقه الإلزامي أو بُنِي في ظروف لم تسمح دائماً بالتقيد الدقيق بالمعايير التصميمية والتنفيذية المفروضة. ونتيجة لذلك يمكن القول إن نسبة معتبرة من الأبنية القائمة لم تُصمَّم ابتداءً لتحمل التشوّهات الكبيرة والقوى الديناميكية الناتجة عن زلزال قوي وطويل.

‎إنّ التجربة المريرة لزلزال 2023 أظهرت بوضوح أن أنماط الانهيار التي رُصدت في عدد كبير من الأبنية لم تكن نتيجة استثنائية بل كانت انعكاساً مباشراً لثغرات تصميمية وتنفيذية معروفة في الأبنية الخرسانية الشائعة في المنطقة مثل طوابق أرضية ضعيفة، أعمدة غير كافية التسليح أو غير محصورة بشكل صحيح، جدران تعبئة غير مدعمة، وإضافات طابقية غير مدروسة. هذه السمات الإنشائية موجودة بدرجات مختلفة في أبنية مدن أخرى خارج منطقة الزلزال الأخير وهو ما يرفع منسوب القلق العلمي والمهني حيال مآلات أي زلزال قوي مستقبلي في تلك المناطق.

‎من الناحية المؤسسية تمتلك سورية مركزاً وطنياً لرصد الزلازل ودراستها يقوم بدور مراقبة النشاط الزلزالي وتحليل معطياته ونشرها. ولكن وجود كيان تنفيذي متخصص يتولّى حصراً ملف سلامة الأبنية في مواجهة الزلازل ضمن رؤية وطنية طويلة ما يزال يمثل حلقة أساسية مفقودة في المنظومة الوطنية المدى تربط بين المعرفة السيزمولوجية والسياسات العمرانية ومشاريع التقييم والتقوية على أرض الواقع.

‎المطلوب في هذه المرحلة هو الانتقال من منطق "الاستجابة بعد وقوع الكارثة" إلى منطق "الإدارة الاستباقية للمخاطر". ويتطلب ذلك تبنّي برنامج وطني متكامل يقوم على ثلاث ركائز رئيسة وهي:
‎1- حصر المخاطر العمرانية
‎ينبغي إنشاء قاعدة بيانات وطنية للأبنية في المدن والبلدات الرئيسة تتضمّن توصيفاً إنشائياً مختصراً لكل مبنى (نوع النظام الإنشائي، سنة البناء، حالة الصيانة، عدد الطوابق، وجود طابق طيّار، إلخ)، وربط هذه البيانات بخرائط الخطر الزلزالي لكل منطقة. هذه الخطوة تسمح بتحديد الأبنية الأكثر هشاشة ووضع أولويات واضحة لأعمال التقييم والتدعيم.

‎2- التقييم الفني المنهجي وتقوية الأبنية ذات الأولوية
‎يستلزم الأمر اعتماد منهجيات علمية معيارية لتقييم سلامة الأبنية القائمة تبدأ بالتقييم السريع البصري للأعداد الكبيرة من الأبنية وتمتد إلى تقييمات تفصيلية للأبنية عالية الخطورة مع إعداد تصاميم تقوية ملائمة لكل حالة. ويجب أن تُعطى الأولوية للمستشفيات، والمدارس، ومراكز الإسعاف والدفاع المدني، والأبنية السكنية ذات الكثافة السكانية العالية. تقنيات التقوية متوافرة ومعروفة وتتدرج من التدعيم بالخرسانة المسلحة والصلب إلى استخدام جدران قص إضافية أو أنظمة العزل والتخميد في الأبنية الحيوية.

‎3- تحديث الإطار التشريعي وبناء القدرات الوطنية
‎لا يكفي امتلاك كود وطني للزلازل على الورق بل لا بد من تحديث مستمر لمتطلباته في ضوء المعارف العلمية الحديثة والدروس المستفادة من الزلازل الأخيرة إلى جانب تفعيل الرقابة على التصميم والتنفيذ من خلال جهات تدقيق معتمَدة ذات صلاحيات واضحة. كما يتطلب الأمر برامج تدريب وتأهيل للمهندسين والبلديات والمقاولين على أحدث مفاهيم التصميم الزلزالي والتقوية مع إدماج هذه الموضوعات بصورة أعمق في مناهج التعليم الهندسي.

‎إنّ تبنّي هذا النوع من البرامج يحتاج إلى قرار سياسي واضح يعتبر ملف سلامة الأبنية جزءاً من منظومة الأمن الوطني لا مجرد قضية تقنية تخصّ المهندسين وحدهم. فالتجارب الدولية تُظهر أن الاستثمار في تقييم وتقوية الأبنية قبل وقوع الكارثة أقلّ كلفةً بكثير من إعادة الإعمار بعد زلزال مدمّر سواء من حيث المال أو من حيث الأرواح البشرية التي لا تعوَّض.

‎الخلاصة أنّ السؤال لم يعد: هل يمكن أن تتعرّض المدن السورية لزلازل مدمّرة في المستقبل؟ بل أصبح: ما مستوى جاهزية الأبنية الحالية عندما يحدث ذلك؟ والإجابة العلمية الصادقة تقتضي الاعتراف بوجود فجوة واضحة بين الخطر القائم والواقع البنائي، والعمل على سدّ هذه الفجوة من خلال رؤية وطنية واضحة، ومركز مختص، وخطة عمل زمنية قابلة للتنفيذ والمتابعة والتقويم .

د. عهد حبيب - زمان الوصل
(8)    هل أعجبتك المقالة (12)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي