أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الكابوس… ذاكرة السوريين التي لم تكن تنام

كثيرًا ما خلدنا للنوم لنجد أنفسنا أمام حاجز للهارب الأسد، أو معتقلين في زنازين موته.

هنا أجزم أن هذا الكابوس المرعب كان جزءًا من تراجيديا الذاكرة للسوريين، وشمل الغالبية العظمى لهذا الشعب.

فمنذ أكثر من أربعة عشر عامًا، حمل السوريون في قلوبهم وطأة خوفٍ لا يشبه أي خوف. كان الليل، على طوله، مساحةً شاسعة تتكاثر فيها الظلال، وتتمدد فيها الهواجس، ويصبح الحلم — ذلك الملاذ الذي يلجأ إليه البشر عادة — أرضًا رخوة تتشقق تحت أقدام الذاكرة الثقيلة. لم يكن غريبًا أن يتشارك ملايين السوريين كابوسًا واحدًا، كأنهم على موعدٍ دائم مع ذات المشهد: الوقوف على حاجزٍ يرمز لكل ما هو مجهول، مهدِّد، قريب من الموت وبعيد عن النجاة.

كان ذلك الكابوس يجيء بلا استئذان. يدخل النوم خلسة، ثم يفتح بابًا مُعتَّمًا: جنود متجهمون، أصوات مسلحة، نظرات تُشبه المحاكمات الصامتة، وأوراق هوية ترتجف بين أصابع مبتلَّة بالعرق، وبندقية موجهة. وفي تلك اللحظة، يصبح الزمن هشًا، كل ثانية تحتمل نهايتين: حياة تُترك لتمضي، أو حياة تُطفأ بلا مقدمات.

ومع ذلك، لم تكن اليقظة أجمل كثيرًا، لكنها كانت تمنح لحظة تنفُّس متقطع: "كان حلمًا… فقط حلمًا".

تتردد هذه العبارة في الرأس كأنها إنقاذٌ صغير، كفُّ ماءٍ لروح عطشى. ذلك الفرح المختلط بالخوف كان غريبًا، لكنه حقيقي، يشبه نجاةً ضيقة من موتٍ محقق، وإن كان وهمًا.

لم يكن الكابوس فرديًا. كان جزءًا من ذاكرة جمعية صنعها زمنٌ مضطرب. السوريون في الداخل رأوه، والسوريون في الخارج حملوه معهم كحقيبةٍ لا تخضع للتفتيش، حقيبة ترافقهم على الطائرات، في الغربة، في المهاجر البعيدة، وتتمدد في غرف النوم كلما أُغلقت العيون. هو كابوس لا يحتاج جغرافيا لينمو، يكفي أن يعيش في الرأس ليصبح وطنًا موازيًا من الخوف.

لكن ما يثير الدهشة هو أن الكوابيس — كغيرها من الكائنات — ليست أبدية. حين يتغير الواقع، أو تتبدل معادلات الخوف والقوة، يتغير الليل أيضًا. يصبح أقل قسوة، ويبدأ الدماغ بالتخلص من سطوة الصورة التي كانت تتكرر عشرات المرات. وفجأة، يجد المرء نفسه ينام ليلة كاملة دون أن يرى نفسه محتجزًا عند حاجز، أو مستجوَبًا في ظلام، أو مطارَدًا في حلم له رائحة الرطوبة والصدأ.

وهنا فقط يعرف الإنسان — دون تحليلات سياسية ولا بيانات رسمية — أن شيئًا في العالم قد تبدَّل.
أن الخوف نفسه تلاشى.
أن الذاكرة، رغم جراحها، بدأت تعيد تشكيل ذاتها.

إن توقف الكابوس ليس حدثًا بسيطًا. إنه إعلانٌ داخلي، غير مكتوب، ولا يحتاج إلى شاهد. إعلانٌ بأن الروح التي ظلت لسنوات مقيَّدة بين قوسَي "ماذا لو؟" و"هل سأعود؟" قد بدأت تُشفى قليلًا. أن الأمان — ذلك الجسر المنهار منذ زمن — بدأ يعيد بناء نفسه حجرًا فوق حجر، ليمتد من داخل الإنسان قبل أن يمتد خارجه.

ربما لا يحتاج السوري اليوم إلى كثيرٍ من الشعارات كي يعرف أن مرحلة انتهت وأخرى بدأت. يكفيه أن يضع رأسه على الوسادة، وينام بلا خوف من حاجز، بلا نظرة تفتيش، بلا صوتٍ يسأله من أين وإلى أين. يكفيه أن يستيقظ دون أن يلهث بحثًا عن نفسه.
هذا وحده… كافٍ لتبدأ البلاد — ولو ببطء — بالخروج من ليلٍ طويل.

محمد رافع أبوحوى - زمان الوصل
(11)    هل أعجبتك المقالة (13)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي