على مقربة من الحدود اللبنانية ــ السورية في سهل البقاع، تجري أحداث خفية ليست إلا امتداداً سياسياً لما يجري بين البلدين. فالعلاقة غير المستقرة منذ زمن طويل تنعكس على العبور الصامت لعمال يراهن بعضهم على بعض في معيشتهم، في لحظات سياسية لبنانية تقضّ مضاجعهم
عفيف دياب
ينادي الفتى بخجل : «بويا.. بويا». يجد ماسح الأحذية في «إقامته» قرب مدخل موقف شتوره للنقل الموحّد إلى مختلف الأراضي السورية موقعاً لا بأس به للاسترزاق. أعداد المسافرين من لبنان المأزوم نحو الأراضي السورية، في بداية الأسبوع ومنتصفه، خجولة، ولم يسعف «الحظ» ماسح الأحذية في القيام بعمله على أكمل وجه، «ما طلّعت أكثر من عشرة آلاف ليرة». يراهن الفتى على ارتفاع أعداد المسافرين إلى سوريا هذا الأسبوع، وخلال فترة الأعياد. فرهانه ليس إلا على «طبقة سورية عاملة» ستغادر طوعاً هذه البلاد قبل أن تعود إلى الحقول والبساتين وورش البناء والأعمال الشاقة الأخرى في أرجاء لبنان. مراهنة الفتى الذي يقيم مع أسرته في مخيم للعرب الرحّل في دير زنون على «خط» الشام الدولي، وكلامه العابر والمعبّر، يفتحان «شهية» بعض العمال المغادرين إلى سوريا على التعبير عن هواجسهم وقلقهم من أن يلزموا بمغادرة هذه البلاد قسراً إذا تجدد الاقتتال الطائفي اللبناني «الموروث» أباً عن جد...
لبنانيّون يرهبون العمال!
قلق العمال السوريين وهواجسهم من ردود فعل سياسية وشعبية «موتورة» قد تطالهم، على اعتبار أنهم يمثّلون نظام دولتهم السياسي، إذا «تخلل» الوضع الامني في لبنان، لا يحجبان هواجس سائقي سيارات الأجرة السورية الذين يتخذون من موقف شتوره الموحّد نقطة انطلاق يومية نحو مختلف الأراضي السورية. هواجس من نوع آخر، وناجمة عن اعتداءات «منظمة»، لا علاقة لها بالسياسة. يروي السائقون السوريون قصصاً «بوليسية»، إذ يشير أحدهم إلى تعرّضهم لعمليات سلب منظّمة لسياراتهم، و«منذ 20 يوماً ونحن نتعرض لعمليات سلب سياراتنا بالقوة على الطريق بين شتوره وحمص». ويضيف «جاء قبل أيام أحد اللبنانيين طالباً سيارة أجرة لتقلّه إلى حمص. وعلى الطريق كان «يكمن» رفاق الراكب حيث سلبوا بالقوة السيارة من سائقها ورفضوا إعادتها إلا بعد أن دفع مبلغاً من المال».
ويتابع «الحادثة ليست الأولى من نوعها، لقد سبقها ولحقها عدة سرقات منظّمة لسيارات أجرة سورية، ونضطر إلى دفع الأموال لاستعادة سياراتنا التي هي في الأساس مرهونة لشركات ومصارف تجارية». ويتابع السائق «لقد أصبحنا أكثر حذراً، فنحن منذ أكثر من سنة نعمل طبيعياً بعد أن تراجعت حدة المواقف السياسية في لبنان تجاه سوريا، ولم نعد نخاف من تعرّض سياراتنا لرشق بالحجارة كما كان يحصل قبل سنوات، ولكننا نخاف الآن عمليات السلب المنظمة لسياراتنا».
انعكاسات سياسية سلبية
في موقف سيارات الأجرة السورية في مدينة شتوره الذي يستغل زواياه بعض العمال السوريين لبيع الأدوات الكهربائية الصينية الرخيصة لأقرانهم من العمال المغادرين، «تعشّش» السياسة وبعض أسرار العلاقات الملتبسة بين «لبنان الكبير» و«الجمهورية العربية السورية». يتجنّب السائقون الغوص في «الكلام السياسي»، ويجمعون على قول واحد «نحن شغّيلة على الخط. نريد أن تكون العلاقة بين لبنان وسوريا على أفضل حال. نحن شعب واحد». ويقول السائق أبو مجد إن حركة العبور اليومية بين البلدين تراجعت في الفترة الأخيرة بعد أن شهدت نشاطاً خلال الأشهر الماضية، و«كل الحق على السياسة»، و«نراهن على عيد الأضحى لأن العمال (السوريين) سيغادرون لتمضية العيد مع أهاليهم وأسرهم».
رهان سائقي سيارات الأجرة السورية في «موقف شتوره الموحّد» على نقل مواطنيهم إلى بلادهم الواحدة، لا يختلف عن رهان ماسح الأحذية. فالعمال هنا يراهنون على أقرانهم لاستمرار «عيشهم»، واللبناني ينتظر لحظات «الاستغلال» المختلفة والمتنوعة. عند نقطة المصنع الحدودية، يتحدث أصحاب محال الصيرفة «الشرعية» عن تراجع عملهم في تبديل العملات. ويقول أحدهم إن تراجع عملهم أخيراً ناجم عن بدء الحديث عن عودة العلاقة السياسية السيّئة بين الرئيس سعد الحريري والرئيس (السوري) بشار الأسد، و«نحن نراهن على عيد الأضحى، لأن العمال السوريين سيغادرون بالآلاف». هذا «الصيرفي» البقاعي الذي كان يجادل مواطناً سعودياً في أسعار الريال السعودي مقابل الليرة اللبنانية، و«نشّفلي ريقي»، يحمّل «السياسة» مسؤولية تردّي حركة العبور بين لبنان وسوريا بعد أن شهدت نشاطاً ملحوظاً بعد زيارة الرئيس سعد الحريري الأولى لسوريا، و«الكل خايفين. الناس ناطرين الوضع لوين بدّو يروح»! ويضيف «لم يعد الودّ موجوداً بين لبنان وسوريا. ولكن لا يمكن اللبناني أن يعيش من دون السوري، والعكس صحيح. نحن اليوم نعتمد على العمال السوريين في عملنا، ولا يمكن أن نراهن على السائح السعودي أو غيره من الخليجيين. والإيراني يزور نهاراً بعض المناطق في لبنان ومعه «الزوادة» ويعود إلى سوريا ليلاً». ويختم «الوضع في لبنان مخيف، وما يجري من صراع سياسي انعكس سلباً على عملنا نتيجة تراجع حركة العبور بين لبنان وسوريا».
مغامرة ... ومقامرة
الرهانات المتنوعة على مقربة من الحدود اللبنانية ـــــ السورية تحولت منذ الانسحاب السوري من لبنان ربيع 2005 إلى مغامرات ومقامرات. فالسياسة التي ترسم مسار العبور بين البلدين تقلق المراهنين من الفقراء بعضهم على بعض. ويقول أبو أحمد لقيس الذي يشرف على موقف سيارت أجرة في شتوره، إن تراجع حركة العبور بين لبنان وسوريا، ورهان ارتفاعها على «إجازة» العمال السوريين فقط، يتحمّل لبنان وسوريا مسؤوليتهما. فـ«المد والجزر في العلاقة غير المنتظمة أساساً بين البلدين، يتحملان مسؤولية مباشرة عن تردّي العلاقة التي تنعكس سلباً على الشعبين. فالبورجوازية السورية لا تكترث إلا لمصالح البورجوازية اللبنانية.. والشعب السوري يعمل عند البورجوزاية السورية واللبنانية في وقت واحد. حركة التنقل بين البلدين لا يعرف معاناتها إلا الفقراء من العمال السوريين واللبنانيين». ويختم «سائقو سيارات الأجرة السورية لا ينقلون من لبنان إلى سوريا إلا العمال السوريين في الدرجة الأولى، وبعض اللبنانيين الفقراء. وكبار القوم من البلدين يستخدمون في عبورهم سياراتهم الخاصة، ولذا لا يشعرون بمعاناة العبور، ولا بالإهانة الإنسانية التي يتعرض لها فقراء البلدين».
7 في المئة
هو حجم انخفاض التبادل التجاري بين لبنان وسوريا في عام 2009 مقارنة بالعام الذي سبقه، وفق تقرير الأمانة العامة للمجلس الأعلى اللبناني السوري. فقد تراجع من ٤٩٥ مليون دولار إلى ٤٥٩ مليوناً، وذلك تحت تأثير الانخفاض الظرفي للمستوردات اللبنانية من سوريا.
عبور صامت
يصل عامل سوري إلى محل للصيرفة عند نقطة المصنع الحدودية. يرمي فراشه من على كتفه خارجاً ويدخل إلى المحل. يسحب من جيبه مبلغاً من المال ويناوله بصمت للّبناني الذي يرمي أمام العامل مبلغاً من العملة السورية. يعدّ العامل السوري المبلغ وينصرف دون أن ينبس بحرف واحد. يحمل من جديد فراشه ويتجه إلى مكاتب الأمن العام اللبناني.
لا يطول انتظاره هناك. ينجز وسم أوراق مغادرته لبنان. يعود إلى حمل فراشه وينطلق سيراً على الأقدام عابراً رسمياً حاجز الأمن العام اللبناني بهدوء نحو بلاده.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية