أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

سوريا ما بعد 2024: البوابة إلى شرق أوسط جديد

مع تحوُّل المشهد في سوريا في ديسمبر 2024، وتولي السيد أحمد الشرع مقاليد الحكم، لم يكن المشهد مجرد تغيير لنظام حكم شمولي ديكتاتوري، بل كان زلزالًا جيوسياسيًا أعاد رسم خريطة التوازنات الإقليمية. هذه لم تكن مجرد نقطة تحول في تاريخ سوريا الداخلي، بل كانت لحظة فاصلة في تاريخ الشرق الأوسط بأكمله، حيث فتحت نافذة نادرة للانتقال من منطق الصراعات إلى منطق التكامل.

التحوُّل السوري: من دولة "فاشلة" إلى شريك إقليمي
لم يكن سقوط نظام بشار الأسد مجرد تغيير في القيادة، بل كان تحولًا جوهريًا في طبيعة الجمهورية السورية ودورها الإقليمي. فبتحررها من الهيمنة الإيرانية المباشرة، استعادت سوريا سيادتها الوطنية وأصبحت قادرة على اتخاذ قراراتها بناءً على مصلحتها الوطنية، وليس تبعًا لأجندات خارجية. الحكومة الجديدة برئاسة أحمد الشرع تمثل تحالفًا وطنيًا حقيقيًا يجمع كفاءات سياسية وعسكرية من مختلف مكونات الشعب السوري، مما منحها شرعية شعبية غير مسبوقة ومكَّنها من تمثيل مصالح سوريا الحقيقية على الساحة الدولية.

هذا التحول لم يقتصر على الجانب السياسي، بل شكَّل ضربة استراتيجية لمحور "المقاومة" التقليدي، حيث فقدت إيران ركيزتها الأساسية في المتوسط، واضطرت لمراجعة حساباتها الإقليمية. وأصبحت سوريا - بدلًا من كونها ساحة للصراعات بالوكالة - طرفًا فاعلًا في صناعة الاستقرار الإقليمي.

تأثيرات متعددة الأبعاد: موجات التحوُّل الإقليمي:
- لبنان: من دوامة الانهيار إلى شروط التعافي
شكَّل استقرار الحدود السورية-اللبنانية شريان حياة للاقتصاد اللبناني المنهك. فبتراجع عمليات التهريب وانتشار المخدرات، عادت موانئ بيروت وطرابلس لتلعب دورها الطبيعي كمخارج للاقتصاد السوري الناشئ، مما خلق حلقة إنعاش اقتصادي متبادلة. كما أسهم عودة الدور السوري المعتدل في تخفيف الاحتقان السياسي في بيروت، وفتح آفاقًا لحلول وسطى في ملفات شائكة مثل الرئاسة والانتخابات.

- الأردن: نهاية التهديد الأمني وبداية الشراكة الاقتصادية
كان للأردن النصيب الأكبر في الاستفادة من استقرار سوريا، حيث تراجعت بشكل ملحوظ تهديدات تهريب السلاح والمخدرات عبر حدوده الطويلة. هذا الاستقرار الأمني مكَّن عمَّان من التركيز على معالجة أزماتها الاقتصادية الداخلية، كما فتح الباب لشراكات اقتصادية استراتيجية في مجالات الطاقة والنقل، حيث تعمل البلدان على إحياء مشروع خط الغاز المصري-الأردني-السوري الذي ظل متوقفًا لأكثر من عقد.

- العراق: إعادة رسم التحالفات
بدت تأثيرات التحول السوري جلية في العراق، حيث وجدت المحافظات السُنيَّة - وخاصة الأنبار - في الحكومة السورية الجديدة حليفًا طبيعيًا وحاجزًا أمنيًا ضد الميليشيات المدعومة إيرانيًا. هذا التحالف الناشئ بدأ يُغيِّر من معادلات القوى في بغداد، واضطرت الأحزاب الموالية لإيران لمراجعة أولوياتها وتقديم تنازلات في ملفات حساسة، في مؤشر على تراجع النفوذ الإيراني المباشر.

- تركيا: من العداء إلى المصالحة المصلحية
وجدت أنقرة نفسها أمام واقع جديد يفرض عليها مراجعة سياستها الإقليمية. فبعد سنوات من الدعم للمعارضة السورية، بدأت تركيا حوارًا أمنيًا واقتصاديًا مع دمشق، بهدف تأمين حدودها وإحياء مشاريعها الاقتصادية المتوقفة، لا سيما في مجال الطاقة والنقل. هذه المصالحة قد تمهد لمرحلة جديدة من العلاقات ليس فقط مع سوريا، بل مع كامل الإقليم، بما في ذلك إسرائيل لاحقًا.

الانفتاح السوري: دبلوماسية جديدة لمرحلة جديدة
أظهرت حكومة الرئيس الشرع نضجًا سياسيًا لافتًا في تعاملها مع الملفات الدولية الشائكة. فبدلًا من الخطاب الأيديولوجي المتشدد، انتهجت سياسة براغماتية تركز على المصلحة الوطنية. استقبال الوفود الدولية ورجال الدين اليهود لم يكن مجرد خطوة رمزية، بل كان رسالة واضحة بأن الأولوية هي إعادة الإعمار والاستقرار والاندماج في المجتمع الدولي.

هذا الانفتاح خلق فرصة تاريخية لاتفاق شامل مع إسرائيل، قد يكون الأكثر واقعية منذ عقود. الحكومة السورية الجديدة تمتلك الشرعية والمرونة للتفاوض على سلام دائم، بعيدًا عن الإملاءات الخارجية والأجندات الأيديولوجية.

نافذة الأمل الإقليمي
تمثل سوريا ما بعد 2024 نموذجًا لكيفية تحوُّل الدولة من مصدر لعدم الاستقرار إلى قاطرة للاستقرار والازدهار الإقليمي. التحول السوري لم يفتح فقط صفحة جديدة في تاريخ سوريا، بل أعاد الأمل في إمكانية انتقال الشرق الأوسط من منطق الصراع إلى منطق التكامل. النجاح في هذه المرحلة التاريخية يتطلب من جميع الأطراف الإقليمية والدولية قراءة الخريطة الجديدة بذكاء، واغتنام الفرصة لبناء نظام إقليمي قائم على المصالح المشتركة والتعايش السلمي.

محمد الحمداني - زمان الوصل
(9)    هل أعجبتك المقالة (8)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي