فى بداية إلتحاقى بالمدرسة الإبتدائية كنت تلميذاً ردئ الخط ، لا أعرف سوى القراءة فقط ، ذلك أن " الشيخة عزيزة " رحمها الله كانت تأتى إلى بيتنا كل صباح لتقرأ القرآن الكريم ، وعلى الإنصياع لأوامرها بالترديد ثم الحفظ بعد ذلك ، وكنت أصحبها فى المجئ والذهاب فقد كانت كفيفة لكنها عبقرية إلى حد بعيد ، تتناول فنحان القهوة مع أمى رحمها الله ثم تتبادلان الحديث والنقاش عما قالته السيدة صفية المهندس عبر برنامجها اليومى " إلى ربات البيوت " فى الراديو ، لتبدأ الشيخة فى ترتيل آيات الذكر الحكيم بصوتها جميل هادئ تخشع له القلوب وترتعد الأوصال ، ثم تبدأ فى عرض بعض معانى الآيات ليستفيد منها الصغار فيرتدعوا ويأبهون لأوامر الآباء والأمهات ، وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور لمن يعارض ..
تعلمت القراءة إذن وحفظت من القرآن الكريم " جزء تبارك " كاملاً ، وحين ذهبت للمدرسة لأول مرة استرعى ذلك معلمى الكريم رحمه الله ، وظن أننى ه قد تلميذاً نابغة ، لكنه سرعان ما أسقط فى يده وأكتشف الحقيقة المرة ..
تجلت الحقيقة المرة فى أن التلميذ الذى لا يكتب الواجب المنزلى ، ولكنه يقرأ بشكل جيد ، أنه لا يعرف الكتابة ، لم يترك معلمى الكريم رحمه الله فى المرحلة الإبتدائية هذا الأمر يمرعبثاً دون أن يعالجه ، بل أخذ بيدى ، فقد كان رحمه الله رجلاً تربوياً وعبقرياً لأقصى مدى ..
منحنى على الفور كراسة رسم أوراقها بيضاء وعلبة من الأقلام الملونة وطلب منى قراءة عنوان كل محل يقع بالشارع الرئيسى ثم البدء بنسخه وتقليد كل عناوين المتاجر ، بنفس ألوانها وخطوطها وكل ما يمت لها بصلة ..
***
ورغم إغواءات كرة القدم ، والأصدقاء الذين كانوا لا يدعون الفرصة تضيع دون إقامة مباراة للعب الكرة " الكياس 1" أو الفرجة على اللاعبين المحترفين فى مبارياتهم التى تقام بحارة " نجم 2" أو عند أرض الضرائب الحالية بشارعى الأمين والثلاثينى ، رحت وبكل سعادة أخط ماأرى على واجهات المحال ، وأنا أجلس القرفصاء كالكاتب المصرى فى زمن الفراعنة ، وأسجل صورة طبق الأصل لما أرى بل وأرسم صاحب المتجر وبضاعته من الدراجات والأوانى أو الأجولة وباع الفول والطعمية و الزبائن ، والذين يمشون فى الشارع وتلك السيارات القليلة وعربات اليد حتى احتشدت الكراسة على مدى أيام بلوحات قال عنها المعلم أنها رائعة رغم أنى كنت أرى غير ذلك ، وقلت فى نفسى أنه يجاملنى ليشد أزرى ..
وفى خلال هذه التجربة وجدتنى ألحظ اسماً بخط صغير أسفل كل رسم أو كتابة فلما تفحصته ملياً وجدته توقيع للخطاط الذى يتركه عند الإنتهاء من اللوحة التى قام برسمها طه شحاتة" ..
وقفت مبهوراً وأنا أسمع الحكايات عن هذا الرجل الذى لا يعرف القراءة ولكنه خطاط ماهر يعزف بألوان متناسقة على رأس المتجر وهو " معلق 3" على السلم الخشبى الذى يعلق عند رأسه دلو " البوية " والفرش المستخدمة بإختلاف مقاساتها وألوانها ، بحثت عنه حتى رأيته يجلس القرفصاء ويرسم لوحاته على مساحة " كشك خشبى" لبيع المرطبات والسجائر ثم على لافتات كتبها بخط يده بألوانها المبهجة ، ثم وجدته يرسم على عربات اليد التى يجرها الباعة الجائلين ويقفون بها على النواصى أو فى الأسواق ، يرسم على سطح عرباتهم تلك البضائع التى يتاجرون بها من فاكهة أو خضراوات كما أنه يرسم صورهم الخاصة بشواربهم الكثيفة أو لحاهم التى اعتنوا بها بشكل جيد وفى رسغ كل واحد منهم ساعة من نوع " الروسكوف 4" أو البرنيطة واكتشفت بعدها أن الساعة والبرنيطة من ممتلكات الرجل النحيل الذى كان يحمل مجموعة من الدلاء بها أصباغه وبوياته ليرسم أيضاً للحجيج رحلة الحج المباركة على جدران بيوتهم بألوان زاهية ، فيرسم القطار والطائرة والباخرة والجمال وهى تشق الصحراء ، ويرسم الحاج فى ملابس الإحرام البيضاء وفى قدميه خف وقد أرسل لحيته ونظر ناحية السماء ، ويضع فى وسط اللوحة رسماً للكعبة المشرفة من خلال رسم هندسى بارع متناسق فى موقع بديع وجميل لا يستخدم فى رسمه مسطرة ولا فرجاراً ..
وعلى بعد مسافة ترى المحمل المصرى وهو فى طريقه للأراضى الحجازية حاملاً كسوة الكعبة ومن حوله موكب من الجنود والعساكر ويبدو فى الوسط كبيرهم شامخاً كالجبل ، وفى النهاية يرجع الحاج فيرسمه طه شحاتة ممسكاً بالنصل يذبح به الشاة ليبدأ فى توزيعها على الفقراء والمساكين ..
ومن أجمل ما كان يخط يراع هذا الرجل الذى يعرف القراءة بالكاد أما الكتابة فتلك فهى موهبة اختصه الله بها ليبدع ويتقن صنعته مخلصاً لها مدى حياته ، فهو يرسم على عربات الجيلاتى التى تتجول فى شوارع المدينة هذا " السوبرمان " الفذ المنطلق فى الهواء ليحمل لك " الكلوكلو 5" الذى هو عبارة عن قرطاس من البسكويت ـ ما ألذه وأطعمه ـ يمتلئ بالجيلاتى الممزوج بطعم الشيكولاتة أو المانجو أو الليمون ليناوله المرء هنيئاً مريئاً ويفرح بسعره الرخيص ويلتهمه إلتهاماً ..
يظل طه شحاتة يرسم وأنا انتهز الفرصة وأقترب منه فأجلس على استحياء أراقبه دون أن يشعربى وهو يرسم على عربات الجيلاتى صور فتيات بقوامهن الممشوق وشعورهن المرسلة وهن ترتدين المايوهات الملونة وعيونهن تشبه إلى حد بعيد عيون نساء الفراعنة ،لا أعرف من أين استقى طه شحخاتة جمال هذه العيون التى تشبه عيون الملكة نفرتيتى ..
أما عربات " النيشان 6 " فى حارة العيد فقد كان يرسم عليها الصراع الدائم بين أصحاب العضلات بين بطل أبيض وبطل أسود ، أو يستعد فى حارة العيد لرسم الشنكحاوى والزعبلاوى والراقصات وأصحاب البطولات الخارقة بعضلاتهم المفتولة على واجهات سرادقات الحواة والسحرة والبنت التى تطير أمام العيون لأعلى " والتذكرة بتسعة مليمات ، ووسع طريق للداخل وبخمسة مليمات للعيل "..
ثم نراه يذهب ناحية " بريللو" العجيب ليرسم عند مدخل مسرحه الذى هو على شكل حائط مستدير يمتد من الأرض لأعلى ، ليرسم هذا الرجل الأسطورى اليونانى الأصل الذى يشتهر بالجرأة والإقدام وسرعة الحركة وحسن التصرف وبوجهه الأحمر والبرنيطة التى فوق رأسه وبنيانه الجسدى القوى فنراه يقود الموتوسيكل الضخم ويدور به على الجدار الدائرى الذى يشبه البرميل العملاق فى مهارة منقطعة النظير ولا يخشى من السقوط والموتوسيكل يدور بسرعة والرجل فوقه يحيى الجماهير التى يجف ريقها من الخوف عليه من السقوط ، حتى ينتهى البطل من عدة دورات على الجدران وينزل على الأرض فتستقر القلوب فى مواقعها ، والكل ينظر له من علٍ لتنطلق الصيحات والصفارات من الفم محيية البطل الذى حقق معجزة مبهرة بمقاييس هذا الزمان من ستينيات القرن الماضى ، إنه بريللو ..
***
وجدتنى ذات مرة ألقى السلام على الرجل ، وجلست بالقرب منه ورأيته كيف يمزج بين لونين ليخرج بلون ثالث أو يخفف أو يمسح بيده مستخدما " الثنر" ، ثم وهو يرسم ظلال الحروف بلون يتفق معها ، فلا يترك مساحة دون أن يشغلها أو يلونها ، ويرسم الخلفيات فى اتقان شديد وكأن يهتم بكل دقائقها تماماً كمن يعمل فى فن " المنمنمات " هذا الفن الدقيق الذى لاحظته فى أعمال فنانين كبار أذكر منهم الرسام الجزائرى الراحل محمد راسم ..
ينتهى طه شحاته من ملحمة العمل الشاق ، يحمل السلم الخشبى الثقيل على كتفه ، والدلاء الأخرى بين يديه ويمضى قدماً كالبطل المنتصر ـ مثل أبطال رسوماته ـ فى بيته بمساكن الحرية خلف نقطة الشرطة القديمة ، ليعود مع شكس اليوم التالى إلى أى مكان يطلبه الناس للعمل دون أن يكلف الزبون مليماً واحداً كأجر لحمل أدواته على غرار ما يحدث هذه الأيام ، ووجدتنى من تلقاء نفسى أسأله :
ـ انت فين بكرة ياأبو محمد ..
نظر للسماء ، وأشار بسبابته اليمنى لأعلى ورفع حاجبيه ومد شفته السفلى وقال :
ـ سبحان مقسم الأرزاق ، هو العالم ، يطلع النهار وبيطلع برزقه ..
لم أكن أترك أوقات فراغى تمر دون أن أبحث عنه فى أى مكان ، ربما فى النهاية أجده مضطجعاً متوسداً تحت ذراعه شلتة محلاة بقماش "الكريتون " الملون أمام مدخل بيته فى مساكن الحرية أو جالساً يحتسى " خمسينة شاى 7" أو يشعل سيجارته ويضعها على طرف فمه ، فألقى عليه السلام فيعتدل ويرد بعناية ..
رحم الله هذا الفنان التلقائى صاحب المهبة الفطرية التى استطاع بعبقرية الإنسان وأصالته أن يطورها وينميها ويجعلها وسيلة يحصل بها على رزقه ..
-------
1ـ الكرة الكياس : هى كرة التنس البيضاء يتم ازالة الفرو الأبيض الذى تكتسى به لتصبح كرة مطاطية سوداء ، لا يعترف بلاعب كرة قدم كلاعب حقيقى إن لم يكن مشهوداً له باللعب بها .
2ـ حارة نجم : بشارع كسرى وبنى سويف اشتهرت بشهرة أحرف لاعب كرة "كياس " بها وهو نجم الطنطاوى الذى كان يقيم المباريات عصر كل يوم ، ويُسد الشارع مابين كسرى والسواحل ، وخرج من هذا الشارع أبطال بلا حصر مارسوا هذه اللعبة الممتعة منهم السنجق والشكورى ومسعد نور والسقا وغيرهم ..
3ـ معلق : أى معلقاً فو السلم الخشبى وهو يرسم بمتعة ويدخن بمزاج .
4ـ الروسكوف : ماركة ساعات أجنبية رخيصة الثمن واسعة الإنتشار..
5ـ الكلوكلو : هو نوع من الجيلاتى اللذيذ كان يباع فى عربات صندوقية الشكل عليها عليه من الخشب له زجاج لحفظ رقائق البسكويت الهش ومنها الكلوكلو ، ولهذه العربات من الداخل أسطوانة من النحاس يحفظ بها الجيلاتى وهى تسبح وسط قطع من الثلج المخلوط بالملح لئلا يذوب سريعاً ومن حولها قطعة من الخيش ، ومن الخارج تظلل العربة شمسية ملونة ، والبائع يمسك بزمارة يضعها فى فمه ولها مايسمى بـ " لسان العصفور " صنع من النحاس.
6ـ عربات النيشان : هى مثل عربات اليد الخشبية لكنها أكبر عنها فى الحجم ، لها ظهر واحد معلق فيه أسلاك معدنية رُبطت بها " البمب " من سلكه الرفيع لينشن عليه اللاعب بعد دفع المبلغ المطلوب بالبندقية ذات " الخردق" أو الرش المصنوعة من الألمنيوم ، فتفرقع البمبة وينجح الرامى الذي يبتهج بإنتصاره ونجاحه .
7ـ خمسينة شاى : كوب شاى من الحجم الصغير به شاى أسود من النوع الثقيل ومحلى بالسكر .
.....
بورسعيد
مصر
الرسيم " طه شحاتة" عبقرية فطرية بورسعيدية من الزمن الجميل
محمد عبده العباسى
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية