في مقال سابق على "زمان الوصل" بعنوان (مع صورة: دولة رجال أم رجال دولة)، أوردت على لسان أبي قائمة أسماء لبعض رجالات سوريا للمرحلة قبل الأسدية وهي بعض الأسماء فالقائمة طويلة.
أردت من خلال هذه القائمة أن أدلل على أمرين: الأول أن رجال الدولة السورية كانوا من مختلف الطوائف والقوميات على الأرض السورية أي أن الجامع المشترك لهم هو صفة المواطنة لاغير.
أما الأمر الثاني أن جميع الأسماء تتصف بالندية والقبول المجتمعي السوري على العموم، فأسماء كالأمير حسن الأطرش ومنصور الأطرش وشبلي العيسمي والشاعر بدوي الجبل (محمد سليمان الأحمد) ووهيب الغانم و عبد الرحمن الشهبندر و محمد كرد علي و فارس الخوري وميشيل عفلق، كانوا من قيادات الصف الأول والمؤثرين في الرأي المجتمعي السوري.
ويبقى السؤال والذي طرح من خلال أحد التعليقات على المقال: أين ذهب هؤلاء الرجال؟ وكيف سمحوا لشخص كحافظ الأسد بالتسلل لحكم سوريا؟. إن هذه المقالة تهدف للإجابة على هذا السؤال.
في مقالي السابق بعنوان (العصبيات القاتلة والشرق الأوسط) على زمان الوصل قمت بتعريف الدولة (الوطن) بأنه رقعة جغرافية ضمن حدود معينة تضم أفراداً مختلفين دينياً أو اجتماعياً أو مناطقياً أو قومياً أو عرقياً وقد توافقوا على عقد اجتماعي بينهم اسمه الدستور وماينبثق عنه من قوانين تنظم العلاقة بين هؤلاء الأفراد ضمن هذه الحدود، وبهذه القوانين يتساوون جميعاً. لذلك نفهم أن الدساتير والقوانين تختلف من دولة لأخرى كلما تغيرت الحدود وتغير قاطنوها، أي أن الحدود شرط لازم لمفهوم الوطن، وإن أي شخص يلتزم بهذا التعريف هو شخص وطني يؤمن بالاختلاف وحق التشاركية والمساواة لجميع الناس ضمن هذه الحدود تحت سقف القانون.
أما المفهوم النقيض للوطن فهو مفهوم (الأمة) لأن من ينادي بالأمة يلغي الحدود ويعترف بسلط وعصبيات تاريخية قبل مفهوم الدولة والوطن وقد شرحتها في مقالين سابقين (العصبيات القاتلة والشرق الأوسط) و (الاستبداد والعصبيات: قصة سورية) على زمان الوصل. فماهي الحالة السورية؟
لقد تم إنشاء مفهوم الوطن السوري بحدوده الحالية في العام 1920(راجع مقالي القطبية الدولية وسوريا الوظيفية على موقع سيريا نيوز)، وقد ساهمت خصوصية وجود احتلال فرنسي لسوريا في محيط وصايته بريطانية (العراق، الأردن، فلسطين، مصر) في تعزيز هذه الوطنية، فرجال الاستقلال والمناهضين للاحتلال الفرنسي أَعْطَوا تطمينات للبريطانيين بأنهم لن يتجاوزوا حدودهم باتجاه العمق البريطاني، وبهذا الشرط حصلوا على شبه دعم بريطاني ضد الفرنسيين.
كان للاحتلال الفرنسي لسوريا ميزاته ، حيث أن المحيط البريطاني كالعراق والأردن ومصر تمتع بملكيات دستورية بعكس السوريين الذين وجدوا أنفسهم يبنون وطنيتهم القائمة على التعايش والمساواة والدفاع المشترك عن الوطن ضمن حدوده السورية بدون رأس جامع (ملك وحكومة منتخبة)، فقاموا بصنع قاماتهم ورؤوسهم الجامعة الوطنية والأسماء كثيرة لا حصر لها كيوسف العظمة وسعيد العاص وأحمد مريود وشكري القوتلي ورمضان شلاش وعزيز الهواش وعبد الرحمن الشهبندر وسعد الله الجابري وفارس الخوري، فشكلوا تكتلاً وطنياً قوياً وجامعاً للوطن السوري بمختلف أطيافه، وصفه عمر أبو ريشة في قصيدته (عروس المجد) وهو يخاطب سوريا في الجلاء:
نحنُ مِـن ضَـعْفٍ بَنَيْنَا قُوَةً لــم تَـلِــنْ لِـلمَـارِدِ الـمُلْـتَـهِــبِ
وأَرَقْـنـَاهَـــا دِمـَـاءً حُــرَّةً فَاغْرِفِي مَا شِئْتِ مِنْهَا وَاشْرَبِي
إن هؤلاء الوطنيين لم يجدوا ضيراً من أن يسلموا قيادتهم لرجال مثل ابراهيم هنانو الكردي وصالح العلي العلوي و أن يعلنوا سلطان باشا الأطرش الدرزي قائداً لثورتهم السورية الكبرى، لأن الجميع مواطنون ومتساوون في الحقوق والواجبات ضمن حدود الرقعة السورية بغض النظر عن انتماءاتهم، فالمؤمن بالوطن ليس لكلمة (أقلوي) وجود في قاموسه. لن نستغرب أن يفهم هؤلاء الوطنيون أن الوطنية هي ضد الاستبداد بالضرورة، لذلك سنجد قادة ثورات كالأطرش والعلي يعودون فلاحين ليزرعوا أراضيهم بعد انتهاء مهامهم الوطنية التي كلفهم بها الشعب قبل الاستقلال، تاركين إدارة الدولة بعد الاستقلال لغيرهم ممن يكلفهم الشعب بذلك. من هنا سنضيف شرطاً آخراً للوطنية وهو رفض الاستبداد.
ستبقى الحالة الوطنية غالبة حتى بداية نشوء مفهوم (الأمة) في المشرق العربي بعد الحرب العالمية الثانية، وهنا سينشأ مفهومي الأمة القومية العربية والأمة الدينية بأفرعها السنية والشيعية وآخرها الجهادية.
إن جميع الأمميين (اتباع مفهوم الأمة) يمتازون بأمرين: الأول أن الحدود لاتعنيهم فأحلامهم تتجسد في وحدة الأمة التي يؤمنون بها كيفما امتدت، فإن آمن القوميون بالأمة العربية من المحيط إلى الخليج، فإن أمة الدينيين تمتد من جبال البيرينه على حدود فرنسا حتى الصين. الأمر الثاني أنهم يصنفون أبناء الوطن الواحد بحسب انتماءاتهم، فينشأ لديهم مفهوم (الأقلوية) الذي يتعارض والوطنية، فقد ميز حزب البعث بين البعثي وغير البعثي وصَنَّفَ غير البعثيين بين الحيادي الايجابي والحيادي السلبي، أما أتباع الأمم الدينية فقد نفوا أبناء المذاهب الأخرى، بل زاد الأمر أن أممياً دينياً كسيد قطب اعتبر في كتابه (معالم في الطريق) مصر السنية مجتمع جاهلية حتى يتبعوا مايؤمن به فيكونوا (الطليعة المؤمنة)، أي حتى في أمة السنة يوجد صنف سني نقي وطليعي مؤمن، وآخر سني جاهلي.
في سوريا بعد الاستقلال، بقيت لوطنيي الاستقلال الغلبة عند الشعب وقد ظهر ذلك جلياً في انتخابات 1947 بتصدر حزبي الكتلة الوطنية والشعب للمجلس النيابي، إلا أن الانقلابات العسكرية وظهور عبد الناصر جعل مفهوم الأمة القومية العربية يتقدم ولاسيما بعد نكبة فلسطين العام 1948، فبدأ الشعب بإسقاط وطنيي الاستقلال، وإن انتخابات 1954 تعكس تقدم المد القومي حيث حصد حزب البعث 22 مقعداً برلمانياً متقدماً على الحزب الوطني (19نائباً) بينما لم يكن لمفهوم الأمة الدينية وجوداً قوياً في الشارع، فالإخوان المسلمون كان لهم 4 نواب فقط، وسقط الشيخ مصطفى السباعي مراقب الإخوان في سوريا في معركته الانتخابية ضد رياض المالكي البعثي. ويبقى القول أن القوميين بقوا الأقرب للمفهوم الوطني حيث أن مايعنيهم هو شعوب المنطقة العربية بكل أطيافها، وليس كالتيار الديني الخاص بطائفة معينة، لذلك لاقى القوميون قبولاً مجتمعياً في وطن أطيافه متعددة كسوريا، أما الأمر الآخر فإن قوميي سوريا ناصروا الديمقراطية وليس كقوميي مصر عبد الناصر الذي ألغاها منذ اللحظة الأولى، فلابد أن نعلم أن أكرم الحوراني وقف ضد عسكرييه البعثيين الذين شاوروه بالقيام بانقلاب العام 1957، الأمر الذي حدا بهم أن يذهبوا إلى عبد الناصر بمفردهم طالبين الوحدة بعيداً عن إرادة الدولة وقياداتهم السياسية.
إن قيادات البعث كأكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار هم من وقعوا على وثيقة الانفصال العام 1961عندما وجدوا أن عبد الناصر يأخذهم نحو الاستبداد بعيداً عن مصالح الوطنية السورية، وسيعلن أكرم الحوراني انسحابه من خطه البعثي القومي ليعود إلى حزبه الأساس (الاشتراكيين العرب) كشبه إعلان بالعودة إلى مفهوم الوطنية.
ولكن الشعب السوري عاد ليسقط خياره الوطني ويتمسك بخطه القومي بانقلاب العقيد جاسم علوان الناصري، ومساعدة الضباط البعثيين الطائفيين أو ماسيعرفوا باسم (اللجنة العسكرية الخماسية)، وبالقضاء على حركة علوان سيستتب الأمر للجنة العسكرية، وبحلول العام 1966 سيسدل الستار على الخيار الوطني وستشهد سوريا مغادرة وهروب معظم وطنييها، أما الرصاصة الأخيرة على الوطنية فستكون في العام 1970 واستلام حافظ الأسد. والحقيقة أننا نستطيع الجزم أن خيار الأمة القومية لدى الشعوب العربية قد مات بعد وفاة عبد الناصر العام 1970، وجميع من جاؤوا بعده سيأتون بالعسكريتارية الاستبدادية ولكن بلبوس قومي للتجميل فقط مثل حافظ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافي.
هنا بدأ الشعب يتجه لمفهوم الأمة الدينية كرد فعل لمحاربة العسكرية الاستبدادية الفاسدة بلبوسها القومي الزائف، فبدأ يتعاظم مفهوم الأمة الدينية السنية بقيادة الأخوان المسلمين ولاسيما بعد أن فرك السادات المصباح في السبعينيات لهذا المارد في مصر بعد أن حبسه عبد الناصر فيه، ليخرج ويحارب أعداء السادات من أحزاب الاستقلال الوطنية كالوفد والأحزاب الناصرية، ثم قام السادات بتسليحهم وإرسالهم إلى أفغانستان لإبعادهم عن مصر وبرغبة أمريكية، ليعودوا ويقتلوه بنفس السلاح.
في العام 1979 بدأ مفهوم الأمة الدينية الشيعية يتشكل بظهور الخميني وبدأت معها تتشكل الحركات الشيعية كحزب الله في الحرب اللبنانية، والذي أعلن أن ولاءه لاينتمي إلى لبنان الوطن بل إلى إيران والولي الفقيه، وبهذا صرح حسن نصر الله:(موازنة حزب الله ومعاشاته ومصاريفه وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه من إيران). إن هذه الأممية الشيعية جعلت نصر الله يعلن أن تحرير القدس يمر من الحسكة، وأن يتجاوز حدود لبنانه إلى سوريا حتى (لاتسبى زينب مرتين)، فنصر الله أممي شيعي لايعترف بالحدود.
مع عبد الله عزام سيتشكل مفهوم الأمة الدينية الجهادية في العام 1984 في أفغانستان، حيث سيتم استقطاب الجهاديين العالميين غير المرتبطين بالأوطان، وجميعهم غادروا بلادهم شباباً إلى حياة المغاور كملاذ آمن من الطائرات، لذلك هم لايعرفون ويعادون الحياة المدنية والاجتماعية ويعادون الهويات المختلفة والذاكرة الثقافية و البصرية والسمعية المرتبطة بالوطن الذي غادروه شباباً قبل أن يعرفوه، هم يملكون ذاكرة المغاور القائمة على ثقافة دينية واحدة، ويملكون الذاكرة البصرية لحياة المغاور حتى في الملبس، ويملكون الذاكرة السمعية لحياة المغاور حيث لاتوجد موسيقا، وهم يرغبون بتحويل الأوطان لمغارة كبيرة شبيهاً لهذه المغاور، شبيهاً لذاكرتهم.
في سوريا وبعد سقوط الأمميين القوميين والدينيين في تحقيق أحلام الشعوب ومع مجئ بشار الأسد في العام 2000 بدأت الحركة الوطنية تحاول استعادة تشكلها من خلال المنتديات ولجان إحياء المجتمع المدني، وتم قمع رجالها بالسجون.
مع بدء الثورة السورية العام 2011، قامت الحركة الوطنية السورية بإعادة تعريف الوطنية الذي أوردته في مقدمة هذا المقال بإطلاقهم شعار (واحد واحد واحد الشعب السوري واحد)، فالتف الشعب حول مي سكاف وأنور البني وميشيل كيلو، وردد أغنية سميح شقير الشهيرة (ياحيف)، وخرج الشعب في (سبت مشعل تمو)، وأعطى ميكرفونه لفدوى سليمان في حمص جنباً إلى جنب مع الساروت.
إن هذه المرحلة الوطنية دامت لستة أشهر وهي مايُعَرِّفُها من يتحدث عن ثورة 2011 (الستة أشهر السلمية الأولى)، ومع تصاعد عنف النظام بدأ الشعب باللجوء إلى الأممية الدينية السنية التي ألغت الخيار الوطني كعادتها، وسيطرت على الحراك السياسي (الائتلاف) والعسكري على الأرض، فانسحب المنتمون للخيار الوطني من الكيانات التي سيطرت عليها الحركات الأممية الدينية السياسية منها والعسكرية، وصاروا يشكلون منصاتهم الشخصية بدون جسم وطني جامع. بقي أن نقول أن الأسد قام بإطلاق كثير من الأمميين الدينيين من سجونه ليصطدموا بالوطنية السورية كما فعل السادات تماماً في السبعينيات، فعدو الاستبداد والأممية معاً هو الوطنية.
في الخلاصة فإن الشعب هو المسؤول الأول عن قتل الوطنية بانحيازه للنقيض (الأمة) في الايديولوجيات الأممية القومية أو الدينية، لقد جرب الشعب هذا الانحياز لأكثر من 60 عاماً، فانتهت بلاده مدمرة وكأن زلزالاً ضربها، وشاهد وطنييه يموتون في الخارج فشكري القوتلي وخالد العظم في بيروت، وعمر أبو ريشة في السعودية، وأكرم الحوراني في الأردن، وصلاح البيطار في فرنسا، ناهيك عن وطنيين ماتوا في سوريا، على أرضها وسجونها بدون عزاء.
إن الخيار الوحيد لنجاة سوريا اليوم هو نبذ الايديولوجيات الأممية العابرة للحدود بجميع أشكالها، والتي وإن ادَّعَتْ الأحلام الطوباوية في الأممية القومية أو الدينية فإن نتاجها الحقيقي كان الاستبداد على مدار 60 عاماً من التجربة الطويلة، وتسليم سوريا خراباً بعد 14 عاماً من القتل.
وعلى الشعب العودة للوطن بحدوده، وللوطنية بتعريفها الذي جاء في بداية المقال من الإيمان بالاختلاف والتشاركية والمساواة تحت سقف القانون لجميع من ضمته حدود الوطن، الوطن الذي ينفي ويرفض كلمة (أقلوي)، وعلى الشعب حماية وطنييه ومواطنيه الذين يؤمنون بهذا التعريف ويرفضون الاستبداد بجميع أشكاله الأممية، والدفاع عنهم فلا يموتون في المنافي أو السجون كما حدث لسابقيهم، وجعل الشعار الذي رفعته ثورة 2011 في مرحلتها الوطنية الأولى: (واحد واحد واحد الشعب السوري واحد) شعاراً لوطن السلم الأهلي الجميل بألوانه المختلفة، وليس شعاراً زائفاً تحمله عصبيات أممية قاتلة ومستبدة.
د. مصطفى حسين بطيخة - زمان الوصل

تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية