أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

لا تواصل معنا ... سعاد جروس

 نعرف بالضبط إلى ماذا استندت الجمعية السورية للمعلوماتية في اختيار عبارة: «معنا للتواصل معنى» شعاراً لترويج خدماتها في السنوات الأخيرة، ومع الاعتراف أن الفضل يعود إليها في إدخال الانترنت إلى سوريا وتكبد عناء مهمة محو الأمية المعلوماتية، إلا أنها لم توفق في اختيار هذا الشعار ببلد تتحشرج فيه الانترنت وتغص، ويموت المستخدم سبع ميتات قبل أن يتمكن من استخدامها، بحيث لا يبقى للتواصل أي معنى اللهم إلا معنى واحد، وهو الجهاد في زواريب ودخاليج الشبكة العنكبوتية، والاجتهاد للقفز فوق المواقع والصفحات المحجوبة. وإذا كان ثمة معنى فهو التشويق النابع من القدرة على التحايل والإثارة في ولوج مناطق محظورة، والاطلاع على معلومات ممنوعة.

فإذا كان هذا هو المعنى الذي تبتغيه الجمعية بشعارها فقد حققت غايتها من دون شك. وإذ نناقشه اليوم فذلك بمناسبة تمرير مجلس الوزراء قانون «التواصل الالكتروني» إلى مجلس الشعب لينظر بأمر إقراره. فتغيير اسم القانون من (قانون النشر الإلكتروني) إلى (قانون التواصل مع العموم) يحيلنا تلقائياً إلى شعار الجمعية، لننظر بتوجس إلى استخدام كلمة (التواصل) بدل (النشر)!!

لسنا ضد قوننة النشر الإعلامي والإعلاني الالكتروني، وإنما نطمح إلى قانون ينظم الإعلام عموماً ويأخذ بعين الاعتبار العصر الراهن لا عصر الطباعة الحجرية، كما هو حال قانون المطبوعات عفواً المقموعات الحالي. إلا أن وضع قانون لـ(التواصل مع العموم) يعني أن فلاتر الرقابة لن تكون فقط على المواقع الإعلامية والإعلانية وإنما ستنال أيضاً من عملية التفاعل مع هذه المواقع، حيث يتساوى في هذا القانون كل أطراف العملية الإعلامية؛ المرسل والقناة والمتلقي، وبهذه التسمية تشمل الرقابة كل أشكال التواصل والتفاعل عاقدة العزم على إعادة السوريين إلى غياهب التهامس بالعتمة من الفم إلى الأذن «سقط لقط» لأن للحيطان آذان. بما في ذلك من بتر للتواصل العابر للحدود والقارات، كي يبقى ما في نفس يعقوب مدفوناً لا يعلم به إلا ربه. فالقانون يعرّف كاتب النص بأنه: «كل من يورد أو يدون محتوى أو مادة أو خبراً أو تحقيقا أو ملاحظة أو تعليقاً لدى مقدم لخدمات التواصل على الشبكة، سواء أكان يتمتع بالصفة الصحفية أم لا». ونضع تحت كلمة «تعليقاً» عدة خطوط عندما تعقبها عبارة سواء كان يتمتع بالصفة الصحفية أم لا!! ما يعني أن رقابة أخرى غير رقابة إدارة الموقع ستفرض على المعلقين من القراء، وسيلاحق المخالفون بحسب القانون ويتحمل المسؤولية أصحاب الموقع وأصحاب الاستضافة أيضاً وكل من يشد على ساعدهم في سابقة لم يُسمع بها من قبل في أي بلد غربي أو عربي. والفلترة لن تكون على المواد الإعلامية فقط، بل على فشات الخلق والدردشات والثرثرة والآراء الشخصية... كلها بغثها وسمينها، والتي إذا كان لها أهمية فهي كشف المزاج العام وأجواء الشارع، كما تفيد أحياناً في الكشف عن الفساد والفاسدين، تماما كأحاديث المقاهي والأمكنة العامة، ولعل أفضل تعليق على مسودة القانون ما قاله قارئ أحد المواقع الالكترونية: «نخشى ان يكون هذا القانون وسيلة لحماية الفاسدين من الكشف وحماية الحكومة من النقد».
إذاً، بدل فتح الهوامش التفاعلية لمعرفة ما يعتمل داخل المجتمع، يوضع لها كاتم أنفاس ليكون عنوان مرحلتنا الالكترونية المقبلة «الانكتام التام أو الموت الزؤام».

وزارة الإعلام التي صار لها عدة سنوات بالتعاون مع وزارة الاتصالات تجهد لوضع مشروع القانون، طمأنت أصحاب المواقع الالكترونية بأن القانون لن يحد من «حرية التعبير»، لكن من يستبشر خيراً في قانون يعطي صلاحية التدخل لمقدم خدمة الاستضافة بحجب ما يراه مخالفاً للقانون، وتخزين نسخة عن المحتوى تقدم للجهات القضائية في حال الطلب، ويتعرض للمساءلة القانونية وقد يغرم بمبالغ طائلة في حال عدم الاستجابة، مع أن مقدم الاستضافة هو جهة تقدم خدمة تقنية بحتة لا علاقة لها بتحرير المحتوى، وذلك وفق تصور عبرت عنه وزارة الإعلام في ترويجها لمسودة القانون على لسان مدير شؤونها القانونية أنه «لا يمكن فصل الموقع عن مقدم خدمات الاستضافة ومقدم خدمات النفاذ، فهذه العملية الترابطية جعلت القانون يشمل الجميع»!! وفق هذا التصور، وعلى سبيل المثال، لا يمكن فصل صانع سكين المطبخ عن بائعها وعن شخص أرعن استخدمها في القتل، فالكل يتحمل مسؤولية استخدام سكين المطبخ في جريمة قتل!!
"
والأغرب كان توضيح مدير الشؤون القانونية بأن المواقع التي تتناول قضايا شخصية لا تخضع للقانون، لأنه مخصص للمواقع ذات النشاط العام التي تعنى بمواضيع سياسية أو اقتصادية عامة؛ فهمنا منه أن القانون لن يطاول المدونات ولا المواقع الشخصية، مع العلم أن هذه المواقع هي الأكثر تعرضاً للقمع والحجب والملاحقات القانونية، ليس في بلادنا وحسب بل في غالبية بلدان العالم، فهي نتيجة لطابعها الشخصي عرضة لارتكاب الجرائم الالكترونية بأنواعها، فكيف لا يلحظها القانون في وقت يكبل هامش تعليقات القراء!! ولا نقصد من هذه الإشارة تشديد الرقابة عليها، وإنما التنبيه إلى استحالة قوننة التواصل من دون الإضرار بحريات التعبير والاتصال، ولهذا فإن غالبية التشريعات الناظمة في العالم ركزت على الجرائم الالكترونية، ولم تقارب المواقع والمدونات والاستضافة وخدمات النفاذ، وليس شطارة ما قاله مدير الشؤون القانونية عن أن مشروع القانون «لا مثيل له» وأنه بعد البحث لم يجدوا نصاً متكاملاً، فهناك قوانين متعلقة بالتجارة والجرائم الالكترونية لكنها لم تتطرق للمواقع حتى قانون الاتحاد الأوروبي. ترى هل هناك ما يدعو للتفاخر بأننا سباقون إلى وضع قانون لا يتعقب الجرائم والمجرمين، وإنما يقضي على التواصل ويخنق المتواصلين؟

وريثما ينظر مجلس شعبنا الكريم بالأمر، ليس لمستخدمي الانترنت السوريين سوى رفع الدعاء إلى السماء وسؤالها اللطف بقضاء لا سبيل إلى رده، بعدما ظهرت النيات بعقد العزم على شرعنة تكبيل «التواصل». وإذا كان الآن بفضل البنية التحتية المتهتكة مقطراً بالقطارة؛ أي معقماً وشحيحاً، سيكون بعد صدور القانون منشفاً بالنشافة، تمهيداً لحلاقة على الناشف... بمعنى «لا تواصل معنا».

عن الكفاح العربي
(95)    هل أعجبتك المقالة (89)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي