أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الشركة السورية للنفط: بين هجرة الكفاءات وأزمة التخبط الإداري

تواجه الشركة السورية للنفط اليوم مرحلة مفصلية ودقيقة، تتسم بتزايد مظاهر الاضطراب الإداري والتراجع الحاد في المتابعة الميدانية والعمق الفني. ورغم المكانة الجوهرية للشركة كأحد الأعمدة الاقتصادية الوطنية، أصبحت مؤشرات الضعف الداخلي واضحة ومقلقة في عدة مستويات.

أولاً: التغييرات الإدارية المتسارعة: فوضى تعيق الاستقرار
شهدت الشركة خلال الأعوام الأخيرة سلسلة من التبدلات المتلاحقة في كوادرها الإدارية العليا. هذه التغييرات، التي عادة ما تُبرَّر بشعار "الإصلاح والتجديد"، لم تفلح في خلق بيئة من الاستقرار الإداري أو الفني. فكل إدارة جديدة تبدأ برؤية مختلفة، مما يترتب عليه تداخل في الصلاحيات، وتشتت في الأولويات، وانقطاع في استمرارية الخطط الاستراتيجية. وكانت النتيجة المباشرة هي توقف أو تباطؤ العديد من المشاريع الحيوية، ودخول العاملين في الحقول في حالة من الغموض بشأن التوجهات العامة للشركة.

ثانياً: إقصاء الخبرات وتآكل الركيزة الفنية
تُعاني الشركة من خسارة فادحة للخبرات النوعية التي شكلت عمودها الفقري الفني على مدار عقود. فعدد كبير من المهندسين والفنيين الأكفاء ذوي السجل الطويل أُبعِدوا عن مواقع اتخاذ القرار الجوهرية، ليحل محلهم أشخاص قد يفتقرون إلى الخلفية التقنية والعمق المعرفي اللازم لإدارة ملفات بهذا القدر من الحساسية. هذا التغيير في الهيكل البشري أثّر سلبًا ومباشرة على نوعية القرارات الفنية وعلى كفاءة التنفيذ الميداني، حيث غابت الرؤية العلمية الدقيقة في معالجة المشكلات التشغيلية المعقدة.

ثالثاً: ضعف المتابعة الميدانية وتهديد الإنتاج (خاصة في المنطقة الوسطى)
تُمثل حقول المنطقة الوسطى مواقع إنتاجية استراتيجية للبلاد، لكنها تشهد حالياً تدهوراً واضحاً في مستوى الإشراف والمتابعة. فلقد تقلصت الزيارات الميدانية الضرورية، ولم تعد التقارير الفنية تُراجع وتُدقق بشكل دوري كما يجب. هذا التراخي يخلق مجالاً واسعاً لنمو الأخطاء التشغيلية وتفاقم الهدر غير المبرر. إن العمل الميداني في هذا القطاع الحيوي يتطلب إشرافاً مباشراً ومستمراً لا يمكن بأي حال من الأحوال تعويضه بالمتابعة المكتبية وحدها.

رابعاً: استبدال الكفاءة بالولاء: فجوة الخبرة تتسع
من أخطر الإشكاليات الراهنة هي عملية استقطاب كوادر جديدة إلى مناصب مؤثرة دون امتلاكهم للتجربة العملية الكافية أو الشهادات العلمية التخصصية المطلوبة. رغم أن هذا التوجه قد يبدو ظاهرياً كضخ لدماء جديدة، إلا أنه تم في حالات كثيرة على حساب أصحاب الخبرة الراسخة والمعرفة العميقة في القطاع النفطي. هذا الأمر أحدث فجوة واضحة بين المعرفة النظرية والتطبيق العملي، مما أضعف جودة الأداء في المفاصل الحيوية للإنتاج.

خامساً: تجميد عمليات الاستكشاف والحفر: رهن مستقبل القطاع
لا يمكن لأي قطاع نفطي أن يستمر بالاعتماد على إنتاج الحقول القديمة فحسب. إن توقف عمليات الإصلاح، والاستكشاف، والحفر خلال الفترة الماضية يُعد مؤشراً خطيراً، ويُقلل من الأمل في اكتشاف مكامن جديدة قادرة على تعويض التراجع الطبيعي والزمني في إنتاج الحقول الحالية. إن غياب الخطط الاستكشافية الجادة يهدد بشكل مباشر المستقبل الإنتاجي للشركة على المدى الطويل، ويجعلها رهينة لما تبقى من قدرة الحقول القديمة.

ماذا بعد
تحتاج الشركة السورية للنفط اليوم إلى مراجعة استراتيجية هادئة ومسؤولة، تُعيد التوازن الضروري بين القرار الإداري الحكيم والخبرة الفنية العميقة، وتستعيد الثقة بالكفاءات الوطنية التي بنت هذا القطاع.

إن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ بمجرد تبديل الوجوه، بل يتطلب بناء رؤية مؤسسية مستمرة ومستقرة، تعيد للشركة مكانتها كركيزة أساسية للاقتصاد الوطني. كما يجب المحافظة على حقوق الدولة السورية والمواطن من خلال:
- الإدارة المثلى للحقول: عبر إطلاق مناقصات دولية شفافة ومحددة المدة، تخضع لضوابط دقيقة وتشارك بها كبرى الشركات العالمية ذات السمعة والكفاءة.
- تجنب المسارات غير التنافسية: الابتعاد عن مذكرات التفاهم المشبوهة أو العروض التي تفتقر للشفافية، والتي لا تحقق التنافسية المطلوبة أو العدالة والمساواة بين العارضين.

مع العلم أن مخازين الشركة تزخر بمعدات ومواد قادرة على رفع الإنتاج بملايين الدولارات شهرياً، دون الحاجة إلى الاعتماد الحصري على استثمارات خارجية فورية، شريطة وجود الإرادة الإدارية والقرار الفني السليم لاستغلالها.

زمان الوصل
(9)    هل أعجبتك المقالة (8)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي