أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

مع صورة: دولة رجال أم رجال دولة

فوق مكتبي يوجد صورة لأبي المتوفى  في العام 2022، وأبي من مواليد العام 1930 أي أنه عاصر تاريخ سوريا بفرنسيتها واستقلالها وانقلاباتها ورجالها وثورتها، وكان أبي شاعراً وراوية للشعر وقد عاش حياة غنية ومريحة، واقترب من أصحاب القرار وأسرارهم بحكم مناصبه الإدارية الخدمية كمدير مركز ثقافي في الخمسينيات، ومدير للمسرح العسكري ونقيب للمعلمين في الستينيات، وعضو لمجلسي الشعب و الأمة الاتحادي في أول مجلس جاء به حافظ الأسد، ومدير للتعليمين الابتدائي والثانوي، ولأوفر وقتاً على المتصيدين ونابشي القبور وغربان هذه الأيام، أقول أن أبي كان مستقلاً ولم يكن ينتمي لأي حزب سياسي، إلا أنه كان إدارياً ناجحاً ومحترماً ومهاباً، وفي بيتنا الدمشقي كانت تعقد سهرةٌ كل يوم جمعة لثلاثين عاماً، كان زادُها صحن رز بحليب وكأس شاي وفواكه موسمية مما تنتجه بلدة قطنا التي ننحدر منها، ويحضر هذه السهرة سياسيون من الصف الأول في الأحزاب كمنصور سلطان باشا الأطرش وحسان أحمد مريود واسماعيل العكله وحمود البكفاني و محمد ياسين الأخرس وشعراء كشوقي بغدادي ومفكرون كالدكتور أحمد نسيم برقاوي ورجال انقلابات سابقين كعدنان حمدون ويوسف الأمير علي، وآخرون كانوا في مراكز القرار أو الخدمة العامة، وعندما عاد الشاعر عمر أبوريشة من منفاه زار بيتنا وفيه قال قصيدته الشهيرة (عودة المغترب) قبل أن يغادر ثانية إلى السعودية حيث توفي، وكانت هذه اللقاءات مناخاً للحديث في المجتمع والسياسة وكثيراً ماكنت أنتظر حصاد سهرة يوم الجمعة من ممنوعات ومقالات مسربة في ظل تعتيم أمني وحوارات سياسية أسمعها من أبي، كل هذا الغنى الخدمي والمعرفي والاحترام المجتمعي الذي عاشه أبي جعله لايسأم الحياة كما سئمها زهير بن أبي سلمى في بيته الشهير:
سَئِمْـتُ تَكَالِيْفَ الحَيَاةِ وَمَنْ يَعِـشْ   ثَمَانِيـنَ حَـوْلاً لا أَبَا لَكَ يَسْـأَمِ
إن هذه المقدمة لأدلل أن أبي كان ذاكرة سياسية ومجتمعية طويلة عن سورية كما وصفه أحدهم يوماً، وبالنسبة لي كان رجلاً يملك إجابات على أسئلتي الجدلية، وبصيرة في معرفة كيف تنتهي الأحداث بحكم حياته الطويلة ومعاصرته لأحداث مماثلة.

بالعودة إلى الصورة فقد تأملتها وتذكرت سؤالاً كنت قد سألته إياه إبان حكم حافظ الأسد: كيف أدلل على هبوط الدولة؟
كان رده: أن هنالك دول تُصْنَعُ على مقاس رجال (دولة رجال) فتهبط الدولة بهم، وهناك رجال يصنعون الدولة (رجال دولة) فتعلو الدولة بهم.

واسترسل أبي في جوابه فقال: في الماضي كان لدينا دولة وزراء دفاعها رجال كيوسف العظمة وشكري القوتلي وحسن الأطرش وخالد العظم وأكرم الحوراني ومعروف الدواليبي فمن هو وزير دفاعنا اليوم؟. في الماضي كانوا وزراء الثقافة رجال كصلاح الدين البيطار وعبد السلام العجيلي وشبلي العيسمي فمن هو وزير ثقافتنا اليوم؟. في الماضي كانوا وزراء الصحة رجال كالشاعر محمد سليمان الأحمد (بدوي الجبل) ووهيب الغانم والمفكر عبد السلام الترمانيني، فمن هو وزير صحتنا اليوم؟. 

في الماضي كانوا وزراء الداخلية رجال كصبري العسلي ورشدي الكيخيا ولطفي الحفار فمن هو وزير داخليتنا اليوم؟. في الماضي كانوا وزراء العدل رجال كنسيب البكري ومنير العجلاني وفيضي الأتاسي فمن هو وزير عدلنا اليوم؟. في الماضي كانوا وزراء الخارجية رجال كعبد الرحمن الشهبندر وعادل أرسلان وناظم القدسي وكانوا من سفرائنا الشاعر عمر أبوريشة و الشاعر نزار قباني فمن هم وزراء خارجيتنا وسفراؤنا اليوم؟. في الماضي كانوا وزراء التربية والتعليم رجال كساطع الحصري ورضا سعيد ومحمد كرد علي وميشيل عفلق وسامي الدروبي وأحمد السمان والد الأديبة غادة السمان ورئيس جامعة دمشق الذي رفض قبول التسجيل الجامعي لبعثيي العراق الهاربين إلى سوريا (ومنهم صدام حسين) بعد انقلاب عبد الكريم قاسم لعدم امتلاكهم أوراقاً ثبوتية وقبلهم عبد الناصر يومها، فمن هو وزير التعليم العالي اليوم؟. 

في الماضي كانوا رؤساء الوزراء رجال كسعد الله الجابري وهاشم الأتاسي وبشير العظمة فمن هو رئيس وزرائنا اليوم؟. في الماضي كان رؤساء مجلس الشعب رجال كفارس الخوري وأكرم الحوراني ومنصور الأطرش ومأمون الكزبري فمن هو رئيس مجلس الشعب اليوم؟. 

كانت سوريا مليئة بأسماء لرجال دولة أداروا البلاد بدراية متسمة بالمعرفة والتجربة والقبول والاحترام المجتمعي الواسع، وحكم أساسه العدل والقانون ورؤى ترتقي بالمواطنين ومصالحهم، حتى جاء رجال هبطوا بالدولة ورجالها أيما هبوط قام بوصفه الشاعر عمر أبو ريشة حين هجا حافظ الأسد بقوله:
مِنْ كُلِّ مُنْـبَتِّ السَّـبِيْلِ لَقِيْـطِـهِ    شَاءَتْ بِهِ الأَحْقَادُ أَنْ تَتَجَسَّدَا
نَثَرَ الخَسِيْسَ مِنَ الرِّجَالِ أَمَامَهُ   وَاخْـتَـارَ مِنْـهُ أَخَسَّـهُمْ وَتَقَلَّدَا
لقد صنع الأسد دولة رجال على مقاسه أو كما اعتاد السوريون تسميتها (مزرعة الأسد) فعم الفساد وعم الاستبداد.
لقد كان لسان حال أبي وهو يفاخر برجال الدولة السورية في الماضي كلسان حال عمر أبو ريشة في قصيدته الشهيرة (في طائرة):
هَؤلَاءِ الصِّيدُ قَوْمِي فَانْـتَسِــبْ   إِنْ تَجِدْ أَكْرَمَ مِنْ قَوْمِي رِجَالَا
أما وأنا أنظر للصورة -صورة أبي- فقد كان لسان حالي وحزني كالبيت الأخير من نفس القصيدة:
أَطْرَقَ القَلْبُ، وَغَامَتْ أَعْيُنـِي   بِرُؤَاهَا، وَتَجَاهَلْتُ السُّؤَالَا

د.مصطفى حسين بطيخة - زمان الوصل
(8)    هل أعجبتك المقالة (7)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي