أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

أبطال الظل..

أرشيف

بالاعتقال خلال الأربعة عشر عامًا من الثورة لم يكن الجميع شهداء أو مفقودين، بل لا بد أن يكون ثمة أحياء ينجون ليحكوا الحكاية.

أنا هنا لا أتحدث عن المعتقل الذي قضى دون السنة (ولا أنتقص من مصيبته أبدًا)، إنما أتحدث عن معتقل نجا من الأفرع الأمنية ليُحوَّل إلى صيدنايا أو إلى سجن مدني أو عسكري آخر، وبفضل الله بقي على قيد الحياة وخرج.

الناجون في قصتي ليسوا أولئك المُحرَّرين الذين عرفناهم يوم التحرير، بل هم الأبطال المجهولون الذين خرجوا في ظل حكم النظام، وظلوا صامتين حفاظًا على حياتهم، لا من النظام فحسب، بل من المجتمع الذي كان آنذاك شريكًا في الجريمة.

أناس أمضَوا من ثلاث إلى اثنتي عشرة سنة في المعتقلات؛ مراهقون كبروا هناك، وآخرون شابوا في ذلك المكان، وظلوا أحياءً بأعجوبة.

وبغلطـة أو بقصد من النظام، سُمح لهم بالعودة إلى الحياة… لكن مع حرمان من حقوق مدنية: (لا يُسمح له بامتلاك عقار أو استئجاره، أو ترخيص مزاولة مهنة، أو متابعة دراسة جامعية، ولا يُمنح "لا حكم عليه"). وكذلك حرمان من حقوق عسكرية: (لا يُسمح له بخدمة الوطن). غير أنه، وبحسب حاجة النظام، كان هنالك استثناء لاحق، فمُنحوا "شرف خدمة الوطن"!

تخيّل معي شخصًا أُفرج عنه وهو محروم من هذه الحقوق ومهدد بالسَّوق إلى العسكرية، وطبعًا كل بضعة أسابيع يُستدعى إلى أحد فروع المخابرات. هذا الشخص سيكون أمام ثلاثة احتمالات:
- شخص أهله ميسورو الحال، استطاعوا مساعدته بكل ما أمكن حتى أوصلوه إلى برّ الأمان، وهؤلاء لا يشكّلون أكثر من 5% من الناجين.
- شخص بقي في مناطق النظام لعدم قدرته على تحمّل تكاليف الوصول إلى المناطق المحررة، فصار يناضل ليبقى على قيد الحياة وليعوّض أهله أو أولاده وعائلته عن أثر غيابه السابق، وكل ذلك تحت وطأة الخوف والرعب من رحلة جديدة إلى الأفرع الأمنية. طبعًا من دون أي دعم أو مساعدة من جهة تُذكر، بل العكس: ملاحقة ونبذ من النظام، بل وحتى تجاهل وعدم تواصل من أقرب الناس؛ لأنه يُعتبر مصدر خوف وقلق للمحيط.
- شخص تمكن من الوصول إلى المناطق المحررة، فوجد عائلته تعيش في خيمة أو في بقايا منزل بعد تهدّم بيوتهم، فقرّر أن ينهض بنفسه ومع عائلته معًا. استجمع ما تبقّى لديه من طاقة لتأمين لقمة العيش، في مكان اعتبر نفسه فيه محظوظًا أكثر من غيره لمجرد وصوله إليه (على الأقل لا خوف من العودة إلى صيدنايا). غير أن الجميع هناك يقاتل على لقمة العيش، والجميع فرصهم أفضل منه… أقلّه نفسيًا.

هؤلاء الأبطال المجهولون كثيرون، لكن وقتهم وواجباتهم تجاه أسرهم لم تسمح لهم بأن يكونوا ناشطي رأي أو مدافعين عن حقوق أنفسهم، إذ بالكاد يلاحق أحدهم لقمة عيشه أو يهرب من خوفه. لذلك أُهملت هذه الشريحة إلى أبعد حد.

كثير من الروابط والجمعيات أُنشئت بأهداف ونشاطات وبرامج ادّعت دعم هذه الشريحة، بينما اقتصر دورها الفعلي على أرشفة أسماء المعتقلين والمفقودين الذين استُشهدوا معهم وقصصهم، في أحسن الأحوال.

هؤلاء الأشخاص لم يطلبوا يومًا شفقة، ولم يرجوها. كانوا يريدون فرصة تنافس حقيقية مع المجتمع، كانوا بحاجة إلى دعم نفسي ومجتمعي، ثم مهني، ليلحقوا بالآخرين. كانوا بحاجة إلى أولوية في التوظيف، أو مقعد دراسي مضمون، أو حتى رعاية طبية خاصة لإصاباتهم أو أمراضهم المزمنة التي خلّفها الاعتقال.

أتحدث عن مراهق دخل المعتقل بعمر الثالثة عشرة وخرج بعمر الثانية والعشرين.
أتحدث عن أب دخل في عز شبابه وخرج شيخًا بظهرٍ مكسور.
أتحدث عن خالد، راعي الغنم، الذي دخل بعمر الثالثة والعشرين وخرج في الحادية والثلاثين، ضريرًا كليًا لا يُبصر، وله طفلان. وحتى اليوم لم تلتفت إليه أي منظمة، ولم تقترب منه منذ خمس سنوات، رغم محاولاته المتكررة للتواصل مع الجميع.
(وبرأيي، خالد أكبر دليل على إخفاق كل المنظمات التي تدّعي أداء دورها في رعاية الناجين).

لا تنسوا هؤلاء الأشخاص. ابحثوا عنهم بينكم، فهم أناس صامتون أنوفهم عزيزة. أحرار قولًا وفعلًا، غير مستعدين لطلب شفقة، ولا لتسلّق منابر. إنهم أبطال جبابرة يعيشون بيننا، وما قدّموه في غياهب السجن لا يعلمه إلا الله.
فأنصفوا أبطالكُم الأحياء… رحمةً بشهدائكم

سلطان سلطان - زمان الوصل
(6)    هل أعجبتك المقالة (6)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي