أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

العزل السياسي... بوابة الشفاء الوطني

من دمشق - أ ف ب

حين تخرج الشعوب من أتون الحروب والصراعات وتنتصر ثوراتها، لا يكفي أن تسكت أصوات المدافع لتستقيم الحياة. فثمّة جراح في الذاكرة، وخيانات في التاريخ، أسالت على الأرض بحراً من دماء ودموع، ولا يمكن أن يُعاد إليها النقاء بمجرد توقيع اتفاق أو تبادل اعتذار. العدالة ليست انتقاماً، بل هي ضرورة حتى يطمئن المظلوم أن صوته مسموع، وحتى يدرك الجلاد أن زمنه قد ولى إلى غير رجعة. 

من هنا تنبع الحاجة إلى قانون العزل السياسي، كخطوة ضرورية تمنع رموز النظام البائد من العودة إلى الحياة السياسية، وتمنح المجتمع فرصة لالتقاط أنفاسه، وبناء مؤسساته، واستعادة ثقته بنفسه. 

خمس سنوات فقط كفيلة بأن يُشفى الجسد الوطني من سموم الماضي، وأن تنبت فيه روح جديدة لا تلوثها قبضة البعث ولا عيون أجهزته الأمنية وجلادوها وشراذم المتلونين المنافقين، الذين لم يقل سوؤهم عمن حمل البندقية. فكم من شخص مات بكلمة، وكم من ضحية سقطت نتيجة تقرير أمني، وكم من تصفيق من هؤلاء زاد المجرم الأسد قتلاً وتنكيلاً، وهو المريض النفسي المجرم السادي. 

لسنا نطالب بمحاكم نورمبرغ ولا بمشانق في الساحات، بل بحدّ أدنى من الإنصاف. من لم ينشق عن الجلاد وقت المحنة، ومن واصل تزيين جرائمه وتثبيت حكمه، لا يمكن أن يُمنح اليوم وسام الوطنية ولا أن يُعاد تسويقه بحجة "العمل خلف خطوط العدو". أربع عشرة سنة كاملة مضت، ولم يمد يده للشعب حين كان يسقط شهيداً في الشوارع، فكيف يزعم الآن أنه كان يُنسق من خلف الستار؟ ذلك وهم يشبه السراب، يلهث وراءه الظمآن فلا يجد إلا الخديعة. 

إن أخطر ما يواجه الشعوب الخارجة من الطغيان ليس الخراب المادي وحده، بل خطر إعادة إنتاج الجلادين في ثياب جديدة. حين يُسمح لمن تلطخت أيديهم بالدخول إلى الحاضر من بوابة السياسة، فإنهم لا يدخلون فرادى، بل يدخل معهم الماضي كله، بأدواته وأساليبه ورائحته الثقيلة. 

لا ثقة فيمن خان ساعة الامتحان. ولا عهد مع من رهن الوطن ليبقى هو. إن العزل السياسي ليس كراهية، بل هو حب للوطن، وحرص على أن تُبنى الدولة على أسس سليمة لا على ركام الخيانة. 

فكما تُطهر الجراح قبل أن تلتئم، يجب أن تُطهر السياسة من بقايا الطغيان قبل أن تُبنى الديمقراطية. وإلا فإننا سنعيد زرع بذور الخراب في أرض ما زالت تنزف. 

إنشاء قانون واضح للعزل السياسي مسألة وطنية، وإقراره نصر أخلاقي وضمانة للمستقبل.

محمد رافع أبوحوى - زمان الوصل
(8)    هل أعجبتك المقالة (57)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي