أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

بعد مجزرة تدمر: مؤتمر الولاء والبراء في القرداحة

في أعقاب مجزرة سجن تدمر في ثمانينيات القرن الماضي، عُقد ما عرف بمجلس وملتقى عشائر سوريا العام في مدينة القرداحة بمحافظة اللاذقية، برعاية جمعية المرتضى، التي كانت آنذاك تمثل إحدى الأذرع الطائفية غير الرسمية للنظام السوري. وُجهت الدعوة إلى شيوخ العشائر العربية والكردية، وممثلي أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وبعض الأحزاب الكردية، مع استثناء كل من كان له موقف معارض لانقلاب الثامن من آذار أو للحركة التصحيحية.

تميّز المؤتمر بحضور مزيج من رجال الدين ورؤساء الطوائف، إلى جانب أعضاء في القيادة القطرية والقومية لحزب البعث، من أبرزهم زهير مشارقة، إضافة إلى عدد من الوزراء والمسؤولين الأمنيين. وقد أُقيمت فعالياته في خيام تقليدية شبيهة ببيوت الشعر، في مشهد أراده المنظمون أن يعكس الأصالة والتراث، لكنه حمل في جوهره طابعًا سياسيًا واضحًا يكرّس الولاء المطلق للنظام.

وخلال هذا المؤتمر، تم تنصيب جميل الأسد، شقيق الرئيس حافظ الأسد، رئيسًا عامًا لعشائر سوريا، بما فيها العشائر العربية والكردية، في خطوة رمزية هدفت إلى تثبيت الزعامة العائلية والطائفية. وأبرز ما طُبع في الذاكرة هو القسم الجماعي الذي طُلب من الحضور أداؤه، والذي جاء بصيغة: أقسم بالله العلي العظيم أن أكون وفيًا للأمين حافظ الأسد، وللقائد رفعت الأسد، وللأب الروحي الأستاذ جميل الأسد، وأن أكون علويًا علويًا علويًا.
كان هذا القسم، الذي شبّهه البعض بطقوس الطاعة في عصور الاستبداد، إعلانًا عن مرحلة جديدة من الهيمنة السياسية والأمنية، سبقَت سلسلة من المجازر والانتهاكات التي وقعت في عدد من المحافظات السورية، مثل حماة، حلب، إدلب، دمشق وريفها، اللاذقية، طرطوس، دير الزور، الرقة، والحسكة.

دور جمعية المرتضى
برزت جمعية الإمام المرتضى خلال تلك الفترة كلاعب خفي وفاعل في المشهد السوري، وتحوّلت إلى ما يشبه جهازًا أمنيًا رديفًا، يلعب دورًا موازيًا لسرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد. وأسست الجمعية حواجز أمنية خاصة بها في المدن، لا سيما أثناء مجزرة حماة، حيث شاركت فعليًا في عمليات الاعتقال والتصفية، وأنشأت سجونًا ومعتقلات سرية خاضعة لإدارتها.

ويُعتقد أن الجمعية تلقت دعمًا لوجستيًا وتدريبًا من جهات إقليمية، أبرزها إيران، في سياق مشروع يهدف إلى خلق منظومة دينية واجتماعية متماهية مع النظام، وتستهدف القبائل والعشائر على وجه الخصوص، بغرض إخضاعها واحتوائها داخل بنية السلطة.

الانتساب إلى الجمعية أصبح في كثير من المناطق شرطًا ضمنيًا للبقاء، إذ كان الرفض أو التردد يعني الإقصاء أو الاعتقال، وغالبًا ما يؤدي إلى الإعدام، كما حدث مع عدد من شيوخ العشائر الذين لم يبدوا ولاء كافيًا. وقد اتُّهمت الجمعية أيضًا بإدارة أنشطة غير قانونية مثل القمار والدعارة تحت غطاء رسمي، حيث تحولت بعض مقراتها إلى أماكن محمية من الملاحقة الأمنية.

من المرتضى إلى البستان ثم الدفاع الوطني
مع حلّ جمعية المرتضى لاحقًا، انتقلت المهام والوظائف نفسها إلى جمعية البستان التي أسسها رامي مخلوف، ابن خال الرئيس بشار الأسد.

وشهدت الجمعية الجديدة إعادة إنتاج لنفس الأدوار التي كانت تقوم بها جمعية المرتضى، بما في ذلك عمليات التصفية، التطهير العرقي، وتهريب السلاح والمخدرات. ثم ظهرت لاحقًا ميليشيا الدفاع الوطني التي تم دمجها جزئيًا داخل أجهزة الدولة، لكنها بقيت في جوهرها ميليشيا غير نظامية، تعمل كذراع قمعية للنظام.

العلاقات مع بعض القوى الكردية
وقد أثار ارتباط بعض الأحزاب الكردية، لا سيما تلك التي تبنّت خطابًا شعوبيًا أو انفصاليًا، علامات استفهام حول علاقاتها التاريخية مع النظام. إذ نشأ عدد من قياداتها ضمن الفضاء السياسي الذي أسسه جميل الأسد، والذي اعتُبر بمثابة الأب الروحي لعدد من الشخصيات الكردية البارزة لاحقًا، ومنهم عبد الله أوجلان وصالح مسلم. وقد تبنّى هؤلاء خطابًا يلتقي في بعض محاوره مع مصالح النظام، تحت شعار الغاية تبرر الوسيلة.

يكشف هذا المشهد عن مدى تغلغل النظام السوري في البُنى القبلية والطائفية والاجتماعية خلال الثمانينيات، مستخدمًا أدوات ظاهرها تقليدي وموروث، لكنها كانت في حقيقتها وسائل لفرض الولاء السياسي والطائفي، وتكريس مركزية السلطة بطرق ناعمة حينًا، ودموية حينًا آخر. لقد كان مؤتمر القرداحة لحظة مفصلية في تثبيت الولاء والبراء كمنهج سياسي، تجلّت لاحقً

سليمان الحسيني - زمان الوصل
(10)    هل أعجبتك المقالة (20)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي