
ورثت سوريا قطاعاً مصرفياً منهاراً، لا يقتصر دماره على الخزائن الفارغة التي خلّفها نظام الأسد المخلوع، بل يتجاوزه إلى انهيار كامل في الثقة. فالمصارف التي كان من المفترض أن تكون الحصن الأمين لمدخرات المواطنين وأداة تمويل عجلة الاقتصاد، تحوّلت على مدى عقود إلى مجرد أدوات للنهب المنظّم، وأصبحت رمزاً لانعدام الأمان المالي. اليوم، يقف هذا القطاع شاهداً على مرحلة مظلمة، عاجزاً عن أداء أبسط وظائفه، تاركاً الاقتصاد السوري رهينة للسوق السوداء والتحويلات غير الرسمية التي، على ضرورتها، لا يمكن أن تبني دولة.
إن أي حديث عن التعافي الاقتصادي أو إعادة الإعمار يبقى مجرد وهم ما لم تبدأ معالجته من أساس النظام المالي. والخطوة الأولى على هذا الطريق الشاق ليست البحث عن منح أو قروض خارجية أو تبرعات، بل تكمن في استعادة ثقة وأموال السوريين أنفسهم، وتحديداً تلك الكتلة المالية الهائلة المتناثرة في بلاد المهجر.
الفكرة الجوهرية تكمن في تحويل المغتربين من مجرد "مموّلين للأقارب" إلى "شركاء في التعافي".
تقوم الفكرة على مبادرة استراتيجية تهدف إلى إعادة ضخ السيولة، وتحديداً بالعملات الصعبة، في شرايين القطاع المصرفي السوري. تتمثل هذه المبادرة في تسهيل فتح حسابات مصرفية جارية للسوريين المقيمين في الخارج، خاصة في أوروبا والخليج، عبر آليات حديثة وآمنة ومضمونة.
هذه الخطوة، وإن بدت بسيطة في ظاهرها، فإنها تحمل أثراً بالغاً إذا ما أُحسن إعدادها وتنظيمها. فالجاليات السورية في أوروبا والخليج على وجه الخصوص، تملك اليوم سيولة معتبرة موزعة بين مدخرات شخصية، أو دخول شهرية، أو حتى رؤوس أموال تبحث عن وجهات آمنة. وإذا ما وُجدت قناة مصرفية رسمية وموثوقة داخل سوريا، فإن شريحة واسعة منهم ستكون على استعداد لإيداع مبالغ متفاوتة، صغيرة كانت أو متوسطة، في حساباتهم. وإذا أخذنا بعين الاعتبار وجود ملايين السوريين في هذه البلاد، فهذا يعني دخول مليارات الدولارات شهرياً إلى المصارف السورية، ما سيخلق نهراً من السيولة قادراً على إعادة الحياة للمصارف وتمكينها من القيام بدورها في تمويل التجارة ومنح القروض الإنتاجية.
ولكي لا تبقى هذه الفكرة مجرد أمنية، ولكي تتجاوز حاجز الخوف وانعدام الثقة التاريخي، يتوجب على الحكومة السورية اتخاذ حزمة من الإجراءات التنفيذية الحاسمة، لا تقبل التأجيل أو التهاون:
- إطار تشريعي واضح وحاسم: إصدار قانون خاص ينظّم فتح حسابات السوريين في الخارج، يضمن بشكل صريح وغير قابل للتأويل الحصانة الكاملة لهذه الودائع من أي إجراءات حجز أو مصادرة أو تجميد تعسفي تحت أي ذريعة. ويجب أن يكون هذا القانون بمثابة عقد اجتماعي جديد بين الدولة ومواطنيها في الخارج.
- ضمانات سيادية مباشرة: لا تكفي القوانين وحدها، بل يجب أن تقدّم الحكومة، عبر مصرف سوريا المركزي، ضمانات سيادية مباشرة لهذه الودائع. هذا يعني أن الدولة هي الضامن الأخير لأموال المودعين، مما يبعث رسالة ثقة قوية بأن هذه المبادرة ليست مجرد تكتيك مؤقت، بل هي أساس لسياسة نقدية جديدة.
- ثورة تكنولوجية في الخدمات المصرفية: يجب تمكين السوري في أي مكان في العالم من فتح حسابه وإدارته (إيداع، سحب، تحويل) عبر تطبيقات بنكية آمنة وسهلة الاستخدام، دون الحاجة إلى الحضور الشخصي أو المرور بتعقيدات بيروقراطية قاتلة. فالعالم يتعامل اليوم مصرفياً عبر الهاتف، وسوريا لا يمكن أن تبقى خارج هذا العصر.
- بناء جسور مالية دولية: الربط الفوري مع شبكات التحويل المالي العالمية المعتمدة. هذا يسمح بإدخال الأموال بشكل شرعي وشفاف، ويضع المصارف السورية مجدداً على الخارطة المالية الدولية، ويبعدها عن شبهات غسيل الأموال أو التعاملات المشبوهة.
- مرونة مطلقة في السحب والإيداع: يجب أن يشعر المودع أن أمواله تحت تصرفه في أي وقت. ويجب وضع سياسات سحب واضحة تمنح المودع الحرية الكاملة للتصرف بودائعه.
نجاح هذه التجربة سيسهم في أمرين متوازيين:
أولاً، توفير سيولة فعلية بالعملات الأجنبية داخل البنوك، بما يعيد لها شيئاً من دورها الطبيعي.
ثانياً، إعادة بناء جسر الثقة المقطوع بين السوريين في الخارج ومؤسسات دولتهم، من خلال مبادرة عملية لا تقوم على الشعارات، بل على مصالح متبادلة واضحة.
إن ما أطرحه اليوم ليس حلاً سحرياً لكل مشاكل الاقتصاد السوري، بل هو طوق نجاة وأول خطوة ضرورية على طريق التعافي. أما تجاهل مثل هذه الفكرة والاستمرار في التفكير بالطرق القديمة، فيعني الحكم على القطاع المصرفي بالموت السريري الكامل، وترك الاقتصاد نهباً للفوضى.
عبدالرحمن الناصر - زمان الوصل

تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية