أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

حذاري من أن نبعث الحجاج من جديد

يحفل تاريخنا الإسلامي بلحظات فاصلة تصلح أن تكون بوصلة للسياسة في حاضرنا. من تلك اللحظات ما وقع بين الخليفة سليمان بن عبد الملك ووزيره عمر بن عبد العزيز، عندما همّ الأول بتولية يزيد بن أبي مسلم الثقفي، أحد رجالات الحجاج المعروفين بولائهم له. دافع سليمان عن اختياره بعد أن تحقق من أن الرجل لم يختلس درهمًا ولا دينارًا.

لكن عمر بن عبد العزيز ردّ بحكمة: "أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تحيي ذكر الحجاج باستكتابك كاتبه". قال سليمان: "يا أبا حفص، لقد كشفت عنه فلم أجد عليه خيانة". فأجاب عمر: "أنا أدلك على من هو أعف عن الدينار والدرهم منه". فسأل سليمان: "من هذا؟"، فقال عمر: "إبليس، ما مس دينارًا ولا درهمًا بيده وقد أهلك الخلق". فتراجع سليمان عن توليته.

هذه الواقعة تختصر معادلة الحكم الرشيد: الفساد لا يقتصر على نهب المال العام أو تلوث اليد بالدم، بل قد يتجسّد في تمكين رجال كانت قلوبهم ملأى بالظلم، وأدوارهم مشبعة بالإفساد وتقويض مؤسسات الدولة، وأخذها بيدها للتمادي بالباطل والظلم. وإن أظهروا في لحظة أنهم حاولوا النجاة عندما أدركوا غرق مركب النظام، فإن ذلك لا يعني بالضرورة النزاهة السياسية أو الأخلاقية.

اليوم، ونحن نعيش مرحلة بناء جمهورية جديدة، الدرس واضح: لا يجوز الانخداع بوجوه قد تبدو نظيفة الكف لكنها في جوهرها امتداد لظلم النظام السابق. وإن ضعفت لحظة أمام صوت ضميرها أو إعادة حساباتها في ضوء المعطيات، فهربت من التصاق فظائع النظام بها، فهذا لا يعني النزاهة. إعادة تدوير رموز الماضي تعيد إحياء ذكراه وتثبيت ركائزه، ولو بطرق ناعمة.

ما نحتاجه اليوم هو عدالة انتقالية حقيقية: عدالة لا تنتقم لكنها لا تتغافل، تحاسب بقدر الخطايا، وتجبر الخواطر، وتفتح باب التسامح دون أن تسمح للنسيان أن يطوي جرائم الأمس. في الاستبعاد أحيانًا حماية للمستقبل، وفي الإقصاء العادل ضمانة لاستمرارية الإصلاح.

لقد أدرك عمر بن عبد العزيز أن استبعاد أيدي من والوا الظالمين من السلطة ليس ظلمًا ولا انتقامًا، بل هو عين العدالة وصون للأمة. وهكذا يجب أن يكون مسارنا في سورية الجديدة.

اليوم، تطل علينا وجوه قديمة جديدة، عرفنا فسادها الأخلاقي وتأييدها المستميت للنظام السابق. لا يمكن أن نصفها بالثورية أو الوطنية، فهي قفزت من مركب النظام وقت رأت فيه أن ذلك سبيل نجاتها.

لا يمكن أن نقبل تصدر هذه الوجوه المشهد بينما تحاضر في مجتمع المثقفين والأكاديميين والطلبة والسياسيين، لتظهر في ثوب الذي يخاف على مستقبل سوريا ويرسم لها القادم الجميل. يذكّرنا هذا المشهد بحق بتلك المومس التي تحاضر في الشرف، فهي تتقن تصنّع الدور إلى أبعد الحدود حتى تكاد تُقنع نفسها أنها غير ما هي عليه. ويذكّرنا بيزيد بن أبي مسلم الثقفي، "الشيطان الورع" نظيف الكف.

فلنكن جميعًا أيها السوريون الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، ونقول لكل أحد، سواء كان مسؤولًا عن ترشيح شخص لمنصب أو وظيفة عامة، أو مواطنًا يرى ويسمع ما يحاك لسوريتنا: لا تأمن لذئب ولو ارتدى جلد حمل، فهو سيأكل عند أول فرصة. وأخيرًا، حذاري ثم حذاري من أن نبعث الحجاج من جديد.

الدكتور حسين الحموي - زمان الوصل
(36)    هل أعجبتك المقالة (11)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي