مهما تكن النتائج التي ستتوج العملية الانتخابية مساء هذا اليوم, فانها لا شك ستُدخل الأردن في مرحلة جديدة, من تاريخه السياسي والتشريعي. كما ستدخل العلاقة بين مكونات الحياة السياسية الأردنية في مرحلة جديدة, نتمنى أن تكون مرحلة إعادة بناء الثقة بين هذه المكونات. ومن ثم إعادة بناء الثقة إلى مجمل مكونات مسيرتنا الوطنية, وفي طليعتها مؤسساتنا الدستورية. وأولها السلطة التشريعية, التي تحتاج إلى بذل جهد كبير لتستعيد عافيتها ودورها, ومن ثم ثقة المواطنين بها. وهذا يستدعي منا جميعاً, وفي طليعتنا السلطة التنفيذية القبول بالتعددية وبالرأي الآخر. ومن ثم الاحتكام إلى صناديق الاقتراع, مهما كانت النتائج التي تفرزها هذه الصناديق, شريطة أن تتم عملية الاقتراع في أجواء من الحرية والنزاهة والموضوعية. وأن تتم الانتخابات وفق قانون انتخاب يتم التوافق عليه من قبل الأردنيين. وينبثق من خصوصية تجربتهم السياسية. ويراعي تركيبتهم السكانية والجغرافية. لذلك فإننا نعتقد أن من أول المهام الوطنية التي لا بد من إنجازها في المرحلة القادمة, البدء الفوري بحوار وطني جاد وشامل حول قانون الانتخاب الذي نريد, ليقره المجلس النيابي الجديد في مطلع حياته. حتى لا يُفصَّل هذا القانون وفق أهواء كتل نيابية أو قوى سياسية نافذة.
ليس قانون الانتخاب المعبر عن إرادة الأردنيين الحرة, وحده القادر على إعادة الثقة إلى حياتنا السياسية. فهناك أيضاً ضرورة ملحة لتوحيد مرجعياتنا السياسية والاقتصادية والثقافية. فلا أحد في بلدنا ينكر أننا نعاني من تعدد في مرجعياتنا إلى حد الشرذمة. وهي الشرذمة التي حولت الأردن والأردنيين إلى جزر معزولة, متضاربة المصالح والاتجاهات والتوجيهات, ليس بينها لغة موحدة, يسودها في كثير من الأحيان حوار الطرشان. ويسيطر عليها قانون "قولوا ما تشاءون ونفعل نحن ما نريد" خاصة من قبل السلطة التنفيذية. وهي حالة تقود بلدنا إلى مزيد من الضعف المصحوب بالاحتقان والغضب المكبوت.
وفي إطار الحديث عن توحيد المرجعيات, تبرز أهمية بل وجوب أن نحتكم إلى الدستور, باعتباره مرجعيتنا الأساسية الناظمة لكل علاقاتنا, والمحددة لكل الواجبات والحقوق والصلاحيات, خاصة على صعيد العلاقة بين مؤسسات الدولة وسلطاتها, التي تحتاج في هذه المرحلة أكثر من سواها إلى وجود رجال ونساء أكفياء فيها. وبالتالي فإن من المهم أن يُوكَل الأمر إلى أهله. وأن يعطى القوس باريها. وأن نحسن اختيار من يمثلنا. وأن نضع الرجل المناسب في المكان المناسب. خاصة في المناصب العليا التي تحتاج إلى قادة ومبدعين, لا إلى موظفين. وهذا كله لن يتم إلا بحسن توظيف الطاقات والكفايات. وبأن يتم التعامل مع الجميع على أنهم أبناء أسرة واحدة, ومن ثم يثاب المحسن ويعاقب المسيء على ضوء أداء كل منا, وليس على أساس انتمائنا الجغرافي والسياسي.
إن إعادة بناء الثقة بين مكونات مسيرتنا الوطنية, تستدعي منا جميعاً وقف حملات التشكيك بكل شيء في بلدنا, أشخاصاً وقرارات ومشاريع وانجازات. لأن ذلك كله يدخل في باب اغتيال الشخصية, للأفراد والمؤسسات, وصولاً إلى اغتيال الوطن نفسه.
إن إيقاف حملات التشكيك يعني أن يتوقف كل منا عن (أن يهرف بما لا يعرف). وان نستبدل ذلك كله بالنقد البنّاء المبني على المعلومة الدقيقة والموثوقة. وهذا يعني أيضاً أن نتوقف عن ترديد الإشاعات وتضخيمها, وهذا يستدعي منا أيضاً وخاصة في السلطة التنفيذية, أن نحتكم إلى الحق. وأن لا نعطي آذاننا للنفاق الذي قد يلامس هوانا لكنه لا يلمس الحقيقة. وهنا تبرز أهمية وجود إعلام أردني يقوم على المهنية والاحتراف ويبحث عن المعلومة, ويدقق فيها ويقارنها. إعلام يكون الاستقصاء أهم قواعد عمله, يميل مع الحقيقة حيثما مالت.
ونحن ندعو إلى إعادة بناء الثقة في مؤسسات الدولة الأردنية, لا بد لنا من أن نذكر أن الأردن قام كدولة دور رسالة. لذلك فإن علينا أن نحيي هذا الدور وان نتمسك به وبرسالته, لأن هذا الدور وهذه الرسالة هما اللذان يحميان وجودنا, ويؤكدان حضورنا ودورنا. ومن ثم فإنه من الواجب أن لا نغيب عن أي تحرك عربي أو دولي, له علاقة بالمنطقة وترتيب أوضاعها. وهذا يفرض علينا أن نحسن اختيار من يمثلنا في كل المحافل.
ونحن ندخل اليوم مرحلة جديدة من حياتنا السياسية, يجب أن لا يغيب عن بالنا أن هناك جملة من التحديات والمخاطر التي تهدد بلدنا. فعلى الصعيد السياسي هناك الحلول المطروحة والمتداولة لقضية فلسطين, وسعي البعض لحلها على حساب الأردن. وهناك خطر التهجير الجماعي لمن تبقى من أبناء فلسطين فوق أرضها. في ظل سعي العدو لتحقيق (يهودية الدولة). وهناك الأوضاع المضطربة في العراق ولبنان, وما قد يسفر عن هذا الاضطراب من نتائج ستؤثر علينا بشكل أو بآخر, مما يستدعي أن نكون في حالة جهوزية تامة. وأن يكون في مؤسساتنا الدستورية أكفياء قادرون على مواجهة أي مخاطر قد تحملها الأيام القادمة.
وعلى الصعيد الاقتصادي, لدينا المديونية, والفقر والبطالة, والاختلال في الميزان التجاري.. مما يستدعي أن يكون لدينا عقليات وكفايات اقتصادية, توازن بين الرقم والأثر الاجتماعي والسياسي للرقم.
ما نريده في مواقع صنع القرار الاقتصادي عقليات اقتصادية تفكر بمصلحة الدولة في كل مكوناتها, لا تجار يهمهم فقط الربح والربح السريع لشركاتهم ولشركائهم.
وفي هذا المجال نحب أن نُذكر, بأننا في الأصل شعب محدود الإمكانيات الاقتصادية, تربينا في الأصل على القناعة والإنتاج. وهي المعادلة التي اختلّت في السنوات الأخيرة, عندما سيطرت علينا نزعة الاستهلاك والجشع واللهث وراء الربح السريع. لذلك لا بد من العودة إلى تربيتنا الأصيلة. وهذا يستدعي أن نعدد خياراتنا الاقتصادية, وأن يعترف الفريق الذي قاد اقتصادنا الوطني في المرحلة السابقة بفشله, ليتسلم زمام القيادة الاقتصادية فريق قادر على إعادة التوازن إلى اهتماماتنا فلا نرجح الاقتصادي على الاجتماعي ولا السياسي على الثقافي.
وما دمنا في إطار الحديث عن التوازن, فإنه لا بد من خلق حالة من التوازن بين الحق والواجب في ثقافتنا وسلوكنا. فقد أدمنّا على المطالبة بحقوقنا مع إهمال كل منا لواجبه نحو وطنه ومجتمعه. وفي هذا المجال لا بد من أن نعظم ثقافة العمل لتحل محل ثقافة الثرثرة التي أخذت تتضخم في بلدنا.
غير السياسي والاقتصادي, فإن علينا أن ننتبه سريعاً إلى التحدي الاجتماعي والأخلاقي, الذي صار يهدد بلدنا. وأوضح تجلياته العنف المجتمعي, وازدياد معدلات الجريمة وغيرها من مظاهر الخلل الأخلاقي الذي تفشى في مجتمعنا. مذكرين بأن الانهيار الأخلاقي والاجتماعي أخطر على الدول والمجتمعات وافتك بها من الخطر السياسي والاقتصادي.
ونحن نَعبُر اليوم إلى مرحلة جديدة من حياتنا الوطنية, نذكر بأن هناك العديد من القضايا الوطنية العالقة والمعلقة. وأن حسم هذه القضايا يحتاج إلى رجال قادرين على اتخاذ القرارات الصعبة. مدعومين بجبهة داخلية قوية متماسكة متجانسة. تكون مصدر قوة لهم, ولكل الأردن والأردنيين. والوصول إلى هذه الجبهة يحتاج منا الدخول في حوار وطني شامل يدخل في التفاصيل, لكن بين أهل الاختصاص والمعرفة. كل في مجاله فهل نفعلها ونخرج اليوم من خنادقنا إلى ساحات الحوار الوطني الذي يعيد إلينا الثقة التي فقدناها؟!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية