أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

العدالة الانتقالية بين الشعار والامتحان الصعب

أرشيف

منذ أيام أُعلن عن اجتماع الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية في دمشق، حيث استعرض رئيسها عبدالباسط عبداللطيف ما أُنجز خلال الأشهر الماضية من صياغة النظام الداخلي ومدونة السلوك، والتواصل مع منظمات دولية وذوي الضحايا، وتوزيع المهام على ست لجان رئيسية تمتد من كشف الحقيقة إلى الإصلاح المؤسسي، مروراً بالمحاسبة وجبر الضرر والذاكرة الوطنية، وأخيراً السلم الأهلي والمصالحة الوطنية. كلمات أنيقة ومصطلحات وازنة تبدو وكأنها تُبشّر بمرحلة جديدة لسوريا ما بعد الحرب.

لكن بين ما يُكتب على الورق وما تعيشه البلاد على الأرض مسافة شاسعة. فالعدالة الانتقالية ليست شعارات تُرفع ولا لجاناً تُعلن، بل هي مسار سياسي واجتماعي معقّد، يقوم أولاً على إرادة سياسية صادقة، وثانياً على بيئة آمنة يشارك فيها الجميع دون خوف. فهل هذا متوفر اليوم في سوريا؟

لا شك أن تقسيم العمل إلى لجان متخصصة خطوة في الاتجاه الصحيح، فالعدالة لا تختزل في المحاكمات فقط، بل تشمل الحقيقة والذاكرة والتعويض وضمانات عدم التكرار. غير أن القلق المشروع الذي يعبّر عنه كثيرون يكمن في "لجنة السلم الأهلي والمصالحة الوطنية". إذ يخشى السوريون أن تتحول هذه اللجنة إلى بوابة جديدة للإفلات من العقاب، تحت ذريعة الوحدة الوطنية أو المصالحة المجتمعية، فيُعاد إنتاج معادلة "عفا الله عما مضى" و"اذهبوا فأنتم الطلقاء"، بينما تبقى جراح الضحايا مفتوحة بلا إنصاف.

صديق علّق على الخبر قائلاً: "كيف عدالة انتقالية ويوجد لجنة للسلم الأهلي تُخرج المجرمين؟ هذا ضحك على اللحى." وهذه الجملة على قسوتها تلخّص مأساة الوعي السوري. لقد خبر الناس في الأشهر الماضية كيف كانت المصالحات المعلنة مجرد غطاء لإعادة تدوير مجرمي النظام، وكيف استُخدم العفو العام لتبييض السجون من فلوله لا لفتح صفحة جديدة حقيقية.

العدالة الانتقالية الحقيقية لا تعرف المساومات الرخيصة: فهي لا انتقامية، نعم، لكنها أيضاً ليست انتقائية. من تلطخت يداه بالدماء لا مكان له إلا أمام القضاء، أما المصالحة فمجالها بين المجتمعات التي تقطعت أوصالها، لا بين الجلاد والضحية.

إن هذا المسار سيكون امتحاناً عسيراً: إما أن يتحول إلى خطوة صادقة نحو سوريا مختلفة تُنصف الضحايا وتُعيد بناء الثقة، سواء مع الحكومة الانتقالية أو مع مجتمعات وحواضن النظام الساقط، وإما أن يسقط في فخ الشعارات الفارغة فيتحول إلى أداة تجميلية تزيد من عمق الجرح بدل مداواته. والفيصل في ذلك ليس وجود اللجان ولا كثرة البيانات، بل وضوح الإرادة السياسية: هل نحن أمام مشروع عدالة، أم أمام نسخة جديدة من "عفا الله عما مضى" و"اذهبوا فأنتم الطلقاء"؟

عمل الهيئة سيكون من أصعب المهام وأكثرها حساسية، وسيمتد لسنوات طويلة. وعلى أي حال نرجو لها التوفيق في عملها لأهميته لمستقبل سوريا، ولما له من أثر في إنصاف الضحايا وإشعارهم بالرضا لا بالسخط.

عبد الرحمن الناصر - زمان الوصل
(222)    هل أعجبتك المقالة (30)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي