
ها هو الجبل يقف على حافة مرآته، بين صمتٍ مُثقلٍ بالخذلان والخوف من "علمانيةٍ دينيةٍ عسكرية" هجريّة مريضة، وصوتٍ وطنيٍّ يبحث عن طريقه وسط الضجيج. لم تكن السويداء يومًا سوى بيتًا للوجدان السوري، لكنها وجدت نفسها فجأةً رهينةً لرجلٍ غادر عباءة الحكمة وارتدى وهم الزعامة، فاختصر الطائفة باسمه، وحاول أن يجرّ خلفه مدينةً وجبلًا إلى منحدرٍ بلا قاع، ويصبغهم جميعًا بتهمه الخيانة.
الهجري لم يكن صوت الجبل على الإطلاق، بل صدى طموحٍ شخصي، بنى سلطانه على أشلاء أهله، وأصرّ على زجّهم في معركةٍ قذرة، في واقعٍ سوريٍّ هشّ تغذّيه انقسامات أفقية وعمودية، انتهت إلى نتائج كارثية. ولو كان عنده ذرة مسؤولية لجنّبنا جميعًا شرارته التي أوقدها منذ أول يوم للتحرير في هذا الواقع المتحفّز المجنون.
نعم، أصرّ أن تسقط السويداء لينجو. وبخطابٍ مشوّه، حوّل الساحات من فضاءٍ وطني جامعٍ لكل السوريين إلى رهاناتٍ خاسرة، حتى كادت المدينة تفقد وجهها السوري الذي نعرف.
لكن ما جرى في مدرّج بصرى يكشف الكثير: لم يكن أبناء السويداء هم من هتفوا، بل أهل حوران أنفسهم، الذين استقبلوا البلعوس وعبد الباقي ــ الدرزيين ــ بحرارةٍ تفوق استقبالهم لمسؤولين ووزراء. في ذلك المشهد ارتفع المعنى: إن الصوت الوطني، حين يعلو صادقًا، يُرحَّب به كل السوريين، ولا يُختزل بجبل، ولا يُحبس في طائفة. نعم، هتف السنّة لبلعوس الدرزي الوطني، كما شتموا سابقًا الحسون السنّي الذي وقف إلى جانب المجرم.
لسنا أمام مأساةٍ قدريّة محتومة، بل أمام صناعة رجلٍ واحد، التفّ حوله فلول ومرتزقة هاربون، وجدوا فيه خلاصهم، ووجد فيهم ذراع بطشه. حاول أن يحاصر الجبل داخل دائرةٍ ضيقة من الخصام والتخوين، ويضعه بين خيارات حدّية قاتلة. غير أنّ السويداء ليست طائفة، ولا حقل تجارب، ولا صوتًا مكبوتًا في صدور خائفة. السويداء ذاكرة السوريين جميعًا، وبيتهم المفتوح، ولا بد أن يبقى اسمها تحت سقف سوريا، لا تحت سقف زعامات عابرة.
اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى، لا يكفي الهمس الوطني الخافت الذي يختبئ بين الخوف والترهيب. آن أن يتحوّل هذا الهمس إلى زئيرٍ حرٍّ وطني، يصدح في كل مكان، ويعلن سقوط كل مشروعٍ زائف أراد تحويل السويداء إلى ورقة ضغط أو حقل رهان. ولا يتم ذلك إلا إذا تحرّك السوريون، كل السوريين، بيدٍ ممدودة وبروحٍ تنشر التسامح بدل الشقاق، لنهتف بصوتنا الجهور معًا.
إن دعم السوريين لهذا الصوت هو الضمانة الوحيدة لأن يبقى الجبل حرًّا، وأن تستعيد المدينة وجهها السوري الأصيل. نعم، قد نختلف، وهو الأمر الصحي ما دمنا تحت حروف اسم سوريا لا ينقص حرف منها. ولكن هذا لا يمنع أن نفتح صفحةً جديدة، نعيد بها الثقة، نحاسب من انتهك، نُرجع النازحين، ونُصحّح الواقع بأيدٍ نظيفة لا تتاجر بالتعب. كفى عبثًا. كفى استنزافًا. ولتظل السويداء أكبر من أي شخص، وأكبر من كل من أراد أن يسرق صوتها ويكتم زئيرها الوطني.
محمد رافع أبوحوى - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية