
في عالم الدبلوماسية، تُعتبر السفارات حصوناً للسيادة الوطنية ومراكز للتواصل بين الدول. لكن وثيقة مسرّبة من إدارة المخابرات العامة السورية تكشف وجهاً أكثر قتامة لهذه البعثات: تحويلها إلى "محطات" لتخزين الأسلحة والمتفجرات، ضمن شبكة سرية امتدت من أوروبا إلى الشرق الأوسط.
الوثيقة، وهي مذكرة داخلية مؤرخة في 19 أيلول/سبتمبر 2005 وموجّهة إلى رئيس الجمهورية بشار الأسد، تقدّم اعترافاً رسمياً نادراً بعملية بدأت عام 1979. تحت ذريعة "التصدي" لهجمات جماعة الإخوان المسلمين وتحالفهم المزعوم مع "اليمين العراقي"، أمرت المخابرات السورية فرعها الخارجي بإرسال ترسانة متنوعة إلى عدد من السفارات.
شملت هذه الترسانة، بحسب الوثيقة، "سموماً" (ربما في إشارة إلى سلاح بيولوجي – النص ملتبس)، مسدسات، رشاشات، كواتم صوت، قنابل، ومتفجرات "تي إن تي".
أما قائمة الدول التي تحولت سفارات سوريا فيها إلى مخازن أسلحة فكانت طويلة ومقلقة، وتضم عواصم كبرى مثل باريس، لندن، ومدريد، إلى جانب دول أخرى مثل ألمانيا، تركيا، إيران، اليونان، ودول الخليج (السعودية، الكويت، والإمارات).
ازدواجية الخطاب: "نبذ الإرهاب" وتخزين المتفجرات
المفارقة تكمن في توقيت المذكرة نفسها. ففي عام 2005، كان النظام السوري يسعى "لتحسين صورته وعلاقاته"، كما تعترف الوثيقة، مؤكداً "نبذه للإرهاب بكافة أشكاله". خطاب موجّه للمجتمع الدولي الذي كان يفرض ضغوطاً متزايدة على دمشق بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في شباط/فبراير من العام نفسه، وهو اغتيال وُجّهت فيه أصابع الاتهام إلى الأسد.
لكن خلف هذا الستار الدبلوماسي، كانت المخابرات قلقة من "العبء والخطر المستقبلي" الذي تشكّله هذه الأسلحة المخزنة في أقبية السفارات.
المذكرة تقترح "إتلاف كافة أنواع القنابل والمتفجرات والسموم"، لكنها توصي في الوقت نفسه بـ"الإبقاء على المسدسات وذخيرتها فقط بقصد الحماية".
هذا الاستثناء يثير الشكوك حول النوايا. فـ"الحماية" مصطلح فضفاض يمكن أن يغطي مهام تتجاوز الدفاع عن النفس، وصولاً إلى تصفية المعارضين في الخارج، وهي تهمة لاحقت النظام السوري طويلاً.
"وسموم مثل المسدسات": خطأ صياغة أم إشارة لسلاح سري؟

في فقرة لافتة، تعدد المذكرة المواد المرسلة قائلة: "...إرسال أسلحة ومتفجرات وسموماً مثل المسدسات والمسدسات الرشاشة...". صياغة ملتبسة، فالمسدسات ليست نوعاً من السموم. التفسير الأقرب هو خطأ في الصياغة، حيث كان يفترض استخدام "الواو" للفصل بين "السموم" و"الأسلحة النارية". لكن احتمالاً آخر، وإن كان ضعيفاً، يفتح الباب أمام فرضية أكثر قتامة: إمكانية وجود مسدسات خاصة تطلق مقذوفات سامة، وهو أسلوب معروف في عالم الجاسوسية.
ورغم أن بقية الوثيقة تشير إلى "المسدسات وذخيرتها" بمعناها التقليدي، إلا أن هذا الالتباس يظل شاهداً على خطورة ما كان يُخزّن في الخفاء تحت غطاء الحصانة الدبلوماسية.
مصير مجهول وتساؤلات أمنية
تكشف الوثيقة أنه جرى التخلص من بعض الأسلحة في ألمانيا وقبرص ويوغوسلافيا عام 1997، لكنها تقر بأن "البعض الآخر بقي". والسؤال اليوم، بعد سقوط النظام في دمشق: ما مصير بقية هذه الأسلحة؟
- هل تم إتلافها فعلاً كما أوصت المذكرة؟ لا ضمانات.
- هل بقيت المسدسات في عهدة السفارات؟ ومن يسيطر عليها الآن بعد التغيرات السياسية؟
- هل وقعت بعض هذه الأسلحة في السوق السوداء أو بيد جهات أخرى؟
- هل نُهبت يوم سقوط النظام، خصوصاً في الدول الأوروبية، وأين هي الآن؟
تحويل البعثات الدبلوماسية إلى مخازن أسلحة لا يمثل فقط انتهاكاً صارخاً لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية التي تمنح هذه المقرات حصانتها، بل يكشف أيضاً عن العقلية الأمنية التي حكمت سوريا، حيث كانت أدوات العنف جزءاً من السياسة الخارجية، حتى في عواصم كانت دمشق تسعى لكسب ودها.
هذه الوثيقة ليست مجرد صفحة من الماضي، بل جرس إنذار حول تركات أمنية خطيرة خلفتها الأنظمة الشمولية، والتي قد تظل تهدد الأمن الإقليمي والدولي لسنوات قادمة.
رئيس التحرير - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية