أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

مستقبل قسد... السلم أم الحرب

أرشيف

في خضم التحولات المتسارعة التي يشهدها الإقليم، لم تعد قراءة الحالة السورية ممكنة بمعزلٍ عن محيطها الجغرافي والسياسي. فسورية، بحكم موقعها الاستراتيجي وتاريخها المعقد، تتأثر وتؤثر بلا شك في مجريات الأحداث على صعيد الشرق الأوسط برمته. فالعلاقات المتشابكة بين أنقرة ودمشق، وبين الفاعلين المحليين والإقليميين، تفرض علينا تحليلًا مركبًا يتجاوز النطاق العسكري الضيق ليصل إلى حسابات الاستقرار والشرعية والسيادة.

إن أي قراءة معمقة للملف السوري تتطلب استيعابًا شاملًا للتفاعلات الإقليمية والدولية التي تشكل أبعاد الأزمة وتحدد مساراتها المحتملة. وفي هذا السياق، كان قبل وقت قصير يتم الحديث عن إمكانية شن الحكومة السورية عملًا عسكريًا واسع النطاق على قسد، غير أن التطورات الجارية، لا سيما في الداخل التركي، تجعل من هذا الخيار أقل ترجيحًا في المدى المنظور، بل وتدفع باتجاه قراءة مختلفة تضع الملف في إطار توازنات ما بعد الحرب، لا خلالها.

وإذا أخذنا بالاعتبار أن قوات سوريا الديمقراطية، التي تسيطر على أجزاء واسعة من شمال شرق سوريا، تُعدّ أحد الامتدادات الميدانية لحزب العمال الكردستاني، سواء من حيث التكوين العقائدي أو التنسيق الأمني. ورغم محاولات قسد المستمرة لإبراز نفسها ككيان سوري مستقل يمثل "قوات محلية"، إلا أن علاقاتها العضوية بالحزب الأم، لا سيما فيما يتعلق بالقيادات والهيكلية العسكرية، تبقى نقطة خلافية تُضعف من خطابها السياسي.

الفارق الجوهري اليوم يكمن في السياق السياسي الجديد. ففي تطور بالغ الدلالة، أعلن حزب العمال الكردستاني (PKK) عن قراره بحلّ نفسه كتنظيم مسلح، ممهدًا الطريق لمرحلة جديدة تقوم على العمل السياسي والمؤسسي داخل الدولة التركية. وقد تزامن هذا الإعلان مع انضمام الجناح السياسي المقرب من الحزب، ممثلًا بـ"حزب مساواة وديمقراطية الشعوب" (DEM)، إلى الائتلاف الحاكم الذي يضم حزب العدالة والتنمية (AK Parti) وحزب الحركة القومية (MHP).

قد يبدو هذا التطور مفاجئًا في ظاهره، لكنه في عمقه يعكس تحولًا استراتيجيًا في مقاربة أنقرة للقضية الكردية، ومحاولة لاحتوائها ضمن مؤسسات الدولة لا عبر التصعيد الأمني والمواجهة المستمرة. فاندماج الحزب الكردي في منظومة الحكم يشي بنوايا لخلق بيئة سياسية جديدة تتيح للأكراد أن يكونوا جزءًا من القرار لا خارجه.

ومن هذا المنظور، فإن أي عمل عسكري سوري/تركي جديد في شمال شرق سوريا قد يُقوّض هذه التوجهات، بل ويعيد عقارب الساعة إلى الوراء، مما يضعف فرص الاستقرار الداخلي ويحرج الحكومة أمام حليفها الكردي الناشئ، وسيعتبر تناقضًا صارخًا مع التوجه العام نحو السلام.

وقد يدفع الأطراف الكردية في تركيا إلى التراجع عن أي خطوات إيجابية أخرى في هذا الصدد.

في هذا الإطار، أرى أن تصريحات قسد الأخيرة، وتصعيدها الإعلامي المحدود، استغلالًا لحساسية المرحلة، وأنها مجرد مناورات تهدف إلى تحسين شروط التفاوض مع دمشق أو واشنطن، لا استعدادًا لمواجهة مفتوحة مع دمشق أو أنقرة. إنها محاولة لخلق وزن سياسي قبل دخول أي تسويات محتملة، وليس تحديًا مباشرًا أو فعليًا للديناميكيات الإقليمية الناشئة.

أما الحكومة السورية، فإنها تدرك جيدًا تعقيدات الملف الكردي وتشابك أبعاده الداخلية والإقليمية. فدمشق، رغم رفضها العلني لمشروع "الإدارة الذاتية" الذي تقوده قسد، لم تنخرط منذ التحرير في مواجهة عسكرية شاملة ضدها، وفضلت سياسة الاحتواء البارد والاختراق التدريجي والانتظار لما سيفرزه المشهد في الداخل التركي، الذي سيكون له تأثير كبير بلا شك على الملف في سوريا، سلبًا أو إيجابًا.

لذلك تراقب دمشق عن كثب التطورات في تركيا، وتدرك أن أي حل سلمي للمسألة الكردية هناك قد يُسهّل على دمشق صياغة تسوية مشابهة داخل سوريا، على قاعدة وحدة الأراضي السورية، وسيادة الدولة، وضمان الحقوق الثقافية والتنموية للجميع ضمن إطار وطني جامع. إن الحفاظ على قنوات تواصل غير مباشرة، وتجنب التصعيد غير الضروري، رغم الاستفزازات، يعكس استراتيجية دمشق في التعامل مع هذا الملف المعقد، والتي تهدف إلى استعادة السيادة الكاملة على الأراضي السورية بأقل قدر ممكن من الخسائر، وبما يخدم المصالح الوطنية العليا.

في ضوء ما سبق، فإن الحديث عن عمل عسكري سوري أو تركي ضد قسد يبدو اليوم خارج السياق، ليس فقط بسبب الترتيبات الأمنية والسياسية الجارية في أنقرة، بل أيضًا بفعل التحولات التي يشهدها الإقليم بأسره. وإن كانت قسد لا تزال تثير الجدل وتشكّل عنصر توتر في الشمال السوري، إلا أن التعامل معها بالحكمة السياسية والتدرج السلمي قد يكون أنجع من المواجهة المسلحة التي ستفتح أبوابًا غير مرغوبة وتستنزف الجميع بلا طائل عبر ضرب عملية السلام في تركيا التي ما زالت في مراحلها الأولى، والتي لا ترغب أنقرة بتكرار ما حصل قبل أكثر من عقد، حينما فشلت أول محاولة مشابهة وأدت إلى اشتباكات في ديار بكر، كبرى المدن الكردية، بعد أن سيطر على مركزها مقاتلو حزب العمال الكردستاني.

عبدالرحمن الناصر - زمان الوصل
(9)    هل أعجبتك المقالة (320)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي