حين تنزاح البصيرة وتغيب، وتُستبدل الحكمة بوهم السلطة والانفراد بالرأي، يخرج علينا شيخٌ لا يحمل سوى معولًا للهدم والتشظي، وتلاوين مؤامرة تزكم الأنوف.
لم يأتِ الهجري بموقف يُحتمل تأويله بحسن نية، بل حمل مشروع تفكك، ومضى بخطى ثابتة نحو تمزيق الجرح، ونحن بأدنى مستويات الوعي المجتمعي الذي لا يمكن أن يتحمل طعناته أو يكابر عليها من باب الوطن أو تسفيه الجاهل.
وسيسجّل التاريخ ـ الذي لا تُغفل سطوره ـ أن ما فعله لم يكن موقفًا عابرًا، بل هندسة متقنة لانهيار، وهو يدرك تمامًا نتائج المقامرة التي خاضها على طائفته أولًا قبل سوريا عامة، وحال طلاب السويداء يحكي الحكاية، مستندًا إلى من يديرون اللعبة من خلف الكواليس.
ما حدث لم يكن اختلافًا في الطرح، بل شرخًا في نسيج وطن. السويداء، التي طالما كانت جزءًا أصيلًا من مشروع الدولة الجامعة، أُسقطت في أعين العرب قبل السوريين إلى موضع ريبة واتهام لا أعتقد أن محوه سهل. وما أن تجري بحثًا على مواقع التواصل الاجتماعي ترى السويداء بأعين عموم الناس وخاصة بعد رفع أعلام وإسقاط راية الوطن. لم يكن كل ذلك بفعل حدث طارئ، بل بفعل رجل جعل من ساحة التلاقي الوطني حلبة صراع، ومن رمزية الجبل لوحة مشوهة لا تشبه ما كان يتطلع إليه الأحرار يومًا.
تحوّلت السويداء، بفعل الهجري، من مقصد لأخذ صورة فخرٍ في ساحتها، إلى مسرحٍ لخيبة ومرارة. ماذا لو قال "بَقبل" بدلًا من "بَقبلش"؟ ماذا لو قبِل بتسوية تحفظ للمدينة أمنها وكرامتها، وترعى مصالحها ضمن سياق الدولة ولو على حساب ما يعتقده من مكانة اجتماعية رغم أنه لا يملك مقومات الإنسان السوي وليس الوجاهة؟ الدولة التي أبدت، رغم كل شيء، استعدادًا لحلول تحفظ الحد الأدنى من الاستقرار وقدمت تنازلات رفضناها كشعب من إعادة حتى ضباط الأسد لحالة استثنائية لحالة السويداء تحت مبرر الخصوصية. لكنه لم يبحث عن حلول، بل تمسّك بعناد مرتهن، يخدم مصالح مشغّليه في بازار السياسة الدولية، حيث لا مكان للضعفاء، ولا للمنهكين، ولا مكان له فهو أصغر من أن يكون طرفًا في أدنى اتفاق سياسي.
رفض وهو يدرك أن المقامرة ستفتح أنهار دماء. الخطر لم يكن في الكلام وحده، بل في الخلفية التي صاغته، في النوايا التي ارتدت عباءة الطهر وهي تنفث سمّها في الوطن. هل يُعقل أن يدّعي هذا الرجل تمثيل الطائفة، وهو لا يجيد سوى إشعال النار تحت أقدام من تبقّى؟ هل من المنطقي أن يُقال إنه حريص، وهو لا يرى في أبناء الجبل سوى أدوات يفاوض بها على موائد الغير؟
ويضعهم في أتون حرب لا رابح فيها. لم يكن تقيؤه الفتنوي انحرافًا سياسيًا، بل سقوطًا أخلاقيًا وتاريخيًا. تجاوز الهجري كل حدود المسؤولية، مزّق الجبل وهو يدّعي صيانته، وترك خلفه فراغًا كبيرًا، وانقسامًا أوسع، وندبةً عميقة في وجه الحقيقة.
مفترق طرق وموقف حاسم
اليوم، نقف عند مفترق طرق، والموقف لا يحتمل الحياد. آن أوان أن يُقال بصوت عالٍ: هذا الطريق مرفوض. وهذا الرجل لم يعد أهلًا للثقة أو التمثيل. لا يمكن للجبل أن يُقاد نحو العتمة بيد من أطفأ نوره، ولا أن يُختزل تاريخه بشخصٍ خان أهله بإيقاعهم في مصيدة مدبّرة.
وهنا، لا بد من التوقف عند صوت جنبلاط، لا لكونه زعيمًا درزيًا وحسب، بل لأنه يدرك بحسّه التاريخي أن مصير الطوائف لا يُدار بالغرور أو الارتهان لهوس الجنون بالتفرد، بل بالحكمة وضبط النفس. نعم، يجب أن يُسمع صوت جنبلاط، لأن الوقت يداهمنا، والمصلحة تفرض وقفة إنقاذ قبل أن يسقط ما تبقى.
نعم، يمكن احتواء الأخطاء ومحاسبة من افتعلها، لكن القادم سيكون أكثر ظلمة إن لم يُتخذ الموقف الحاسم الآن. على أبناء السويداء أن يلفظوا هذا الرجل، لا فقط من باب الوعي بالمصيبة التي أوقعهم فيها، بل انسجامًا مع منطق سوري واسع اليوم يراه كارثة تمشي على قدمين، وعبئًا يتكاثر في الجبل.
السويداء قادرة، بتاريخها وناسها، أن تنجو من هذه الكبوة. شرط أن تستعيد صوتها الحقيقي، وتعيد الاعتبار لسياسيين أصحاء عقليًا وأخلاقيًا، لا مرآة مشوهة صنعها من توهّم الزعامة وضلّ الطريق.
سلامٌ لسوريا... كل سوريا.
محمد رافع أبوحوى - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية