مقدمة:
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، بات سؤال الدولة محوريًا في النقاش السياسي والفكري، لا سيما بعد انهيار النظام المركزي التقليدي وبروز أنماط متعدّدة من الحكم والمجتمعات الخارجة عن سلطة المركز.
ومع تحوّل القيادة إلى شخصيات ذات خلفية جهادية–سلفية بعد 2024، تعمّقت أزمة التصور، وبرزت الحاجة إلى إعادة التفكير في مفهوم الدولة ذاتها، وليس فقط إصلاح أدواتها.
أولًا: الضرورة الفكرية لإعادة التفكير في الدولة السورية
1 - فشل النموذج الاستبدادي السابق الذي قام على القوة الأمنية والبيروقراطية.
2 - تناقض الخطاب الرسمي الجديد بين الإسلام السياسي والجهادية الطهرية.
3 - غياب دستور واضح يعكس الإرادة الشعبية، واعتماد الحكم على الولاء الفصائلي والعقائدي.
4 - إخفاق التجارب السابقة في تحقيق الشرعية الأخلاقية للدولة، كما أشار وائل حلاق في نقده لمفهوم السيادة الحديثة.
ثانيًا: إشكاليات النموذج الغربي للدولة في السياق السوري
1 - الدولة الحديثة قائمة على السيادة والسلطة المركزية، بينما المجتمع السوري تعددي وطارد للتوحيد القسري.
2 - تغليب البعد القسري في الحكم، بدل التشاركية والمجتمعية التاريخية التي ميزت الأنظمة الشرعية قبل الحداثة.
3 - استيراد النموذج الغربي خلق مؤسسات شكلية فارغة من الوظيفة الأخلاقية أو المحلية.
ثالثًا: المخاطر السياسية لتأجيل بناء الدولة:
1 - توسع الفوضى الأمنية وتعدد مراكز القرار وسببه غياب السلطة الشرعية.
2 – صعود قوى الأمر الواقع وفرض الشريعة بعنف وسببه الفراغ القانوني.
3 - عودة النزعات الطائفية والانتقامية بسبب انهيار الثقة المجتمعية .
4 - إعادة تدوير النزاع عبر وكلاء دوليين بسبب التدخلات الخارجية .
قد يبدو التأجيل فكريًا مبررًا، لكنه سياسيًا مدمر ما لم يُواكب ببناء مؤسسات انتقالية مرنة.
رابعًا: هل يمكن لسوريا صياغة مفهوم جديد للدولة؟
- نقاط القوة:
1 - إرث قضائي وتشاركي غني عبر التاريخ الإسلامي، من نظام القضاة والمفتي إلى الأعراف المحلية.
2 - وجود تيارات فكرية نقدية تطرح بدائل، مثل أفكار طه عبد الرحمن حول الدولة الأخلاقية.
3 - تصاعد وعي شعبي يطالب بالعدالة والمواطنة، خاصة بعد مجازر الساحل والانتهاكات الطائفية.
- نقاط الضعف :
1 - مركزية القرار العسكري والعقائدي في النظام الجديد.
2 - ضعف الحيز العام للنقاش الفكري المستقل.
3 - انقسام المجتمع وتشرذمه سياسيًا وإثنيًا.
التوصيات:
1- تأسيس منصات فكرية محلية مستقلة لإعادة التفكير الجماعي في الدولة.
ما يجب فعله:
- إطلاق مراكز فكرية وأكاديمية غير مرتبطة بأي فصيل سياسي أو ديني.
- تشجيع الحوارات بين مفكرين من خلفيات إسلامية، عربية، علمانية، قومية وكردية.
كيف يتم تنفيذه:
- دعم المبادرات المجتمعية والمنابر الرقمية المستقلة لنشر أوراق بحثية وحلقات نقاش.
- الشراكة مع جامعات عربية ودولية لتمويل مؤتمرات حول بناء الدولة بعد النزاع.
- ضمان حماية المشاركين فكريًا وأمنيًا من التضييق السياسي أو التكفير الخطابي.
2 - صياغة نموذج "دولة أخلاقية تشاركية" تجمع بين الشرعية التاريخية والمعاصرة.
ما يجب فعله:
- استلهام القيم الإسلامية التاريخية التي أسست أنظمة قضائية لا مركزية وعادلة.
- دمج هذه القيم مع مبادئ المواطنة والحقوق الحديثة ضمن إطار مرن وغير دوغمائي.
كيف يتم تنفيذه:
- تشكيل لجنة فكرية متعددة التخصصات لاقتراح مبادئ تأسيسية لدستور أخلاقي.
- اعتماد التجربة التونسية أو المغربية كنموذج أولي للمزاوجة بين الحداثة والمرجعية الدينية.
- إشراك المجتمع المحلي، بما في ذلك النساء والشباب، في صياغة هذا التصور.
- بناء مؤسسات انتقالية مرنة تواكب التفكير الطويل الأمد ولا تغيّب الدولة بالكامل.
ما يجب فعله:
- إنشاء هياكل مؤقتة لإدارة العدالة والخدمات، تكون قابلة للتعديل مع تقدم التفكير الجماعي.
- حماية الأمن العام دون العودة إلى عقلية "القبضة الحديدية".
كيف يتم تنفيذه:
- اعتماد نموذج “الإدارة المجتمعية” في المدن الخارجة عن سيطرة المركز، على غرار تجارب الشمال السوري.
- تدريب كوادر محلية على إدارة الشؤون المدنية دون انتساب عقائدي أو حزبي.
- صياغة ميثاق مؤقت يحدد صلاحيات واضحة ومحدودة لهذه المؤسسات الانتقالية.
تعزيز دور النخب الثقافية والدينية غير المسيّسة في صياغة هذا النموذج.
ما يجب فعله:
- إعادة الاعتبار للمفكرين والمصلحين المحليين الذين غُيّب صوتهم بسبب الاستقطاب السياسي.
- إشراك علماء الدين والمثقفين غير المؤدلجين في صياغة أخلاق الدولة وليس أدواتها فقط.
كيف يتم تنفيذه:
- خلق فضاءات حوار آمن للنخب في الداخل والخارج، بعيدًا عن الاستقطاب الفصائلي.
- الاستعانة برموز فكرية مثل طه حسين ومصطفى صادق الرافعي وعبد الرحمن الكواكبي كنماذج إلهام.
- انتاج محتوى فكري وشعبي يربط الدولة بمفاهيم مثل الكرامة، المقاصد، والعدل، بدل القوة والسيطرة.
الخاتمة:
ليست أزمة سوريا أزمة نظام فقط، بل أزمة تصور للدولة. إن التحدي الأكبر ليس في إسقاط نموذج سلطوي أو فرض بديل عقائدي، بل في تأسيس دولة تتصالح مع أخلاقها ومجتمعها وتاريخها، دون استعارة نماذج مستوردة أو شعارات مفرغة.
مراجع:
مؤلفات نظرية وفكرية:
1. وائل حلاق – الدولة المستحيلة: الإسلام، السياسة، الحداثة.
2. محمد عابد الجابري – نقد العقل العربي
3. طه عبد الرحمن – سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية.
4. عبد الوهاب المسيري – الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان و سيرة غير ذاتية.
دراسات سياسية وسياقية:
1. الشبكة السورية لحقوق الإنسان – تقارير العدالة الانتقالية ومساءلة الفاعلين الجدد (2024–2025)
2. مركز حرمون – سلسلة دراسات حول مستقبل الدولة السورية بعد الثورة
3. مجلة دراسات عربية – ملف "تحولات الدولة في المشرق العربي" (أعداد 2022–2024)
4. الجمعية السورية للعدالة الانتقالية – "الدستور والمواطنة بعد 2025"
5. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – أوراق حول الدولة الوطنية وسوريا الجديدة.
الباحث: أنور يونان - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية