تساءلت صحيفة "بيلد" الألمانية عمّا إذا كان شعار "العقاب" السوري، الذي تصدّر الهوية البصرية الجديدة، مستوحًى من شعار الاتحاد الألماني لكرة القدم. تساؤل حمل في طياته، لدى بعض المتصيدين منا، ما تجاوز حدود الرأي الفني، ليغدو نقدًا لا يقوم إلا على الطعن، ولا يُبنى إلا على هواجس من ضاق صدره بعودة الحياة إلى لونها السوري.
ولكن، ما الضير؟
ما الضير أن يتشرب المبدع السوري من ضوء الغرب، إذا كانت يداه ما تزالان تحتفظان بحرارة تراب بلاده؟
وما العيب أن يحمل القادمون من بلاد الزيزفون في حقائبهم شيئًا من جمال برلين، ويصوغونه بلغة الشام، ليكون الناتج الأخير تحفةً لا تشبه إلا سوريا حين تتزين بوجهها المشرق، الملائكي، المتفرد؟
في لحظة مشهودة، بزغت الهوية البصرية الجديدة، لا لتكون مجرد شعار يعلق، ولا نقشًا يزاحم غيره على الورق، بل لتكون مرآة مرحلة كاملة، تُطبع على جواز السفر كما يُطبع الختم على ناصية الزمان... موعد ميلاد جديد.
ذلك "العقاب" – الذي حاول بعضهم أن يسجنه في تشبيه – لم يكن مجرد رسم أو خربشة على ورق، بل علامة فجر جديد. رسم رشيق، جسّد فكرة عميقة: أن سوريا تدخل زمن الصورة لا لتعرض نفسها، بل لتعلن عن ذاتها.
ما رآه الناس كان ضوءًا يتشكل، صورة تحلق، هوية تتبلور.
لكن ما لم يروه، هو تلك اليد السورية التي خطّت الأمل من بقايا الوجع، وصاغت الملامح من الحنين والحرف، وذابت بين ألوانها روح تدمرية عتيقة، تعرف كيف تولد من الحجارة كما وُلدت زنوبيا من قلب الرمل.
لقد جاءت هذه الهوية من عمق البادية، لا من ضواحي أوروبا، حتى وإن حملت رشاقة خطوط الغرب؛ فهي ابنة السهل والقلعة والقصيدة، وليدة تمازج زرياب بألحان بيتهوفن، وانصهار الفكرة السورية في بوتقة التنوير العالمي.
هو تمازج حضاري، لا استعارة سطحية.
ولربما، إن شئنا قلب السؤال، قلنا:
أليس العقاب في شعار الاتحاد الكروي الألماني هو من استلهم شيئًا من تدمر؟
تدمر، التي تجاوز عمر مملكتها الألفي عام، والتي رفعت مليكتها تاج الجمال والروعة، لا تزال تفيض رموزًا تلهم الأقوياء.
فالمبدعون حين يفتنون بالقوة، لا يغوصون في الحداثة فقط، بل ينزلون إلى قيعان التاريخ ليستخرجوا درر الكبرياء ومكامن الأنفة.
وما تاريخ سوريا، إلا بحر من نور، من نقوش، من زئير حضارات.
اليوم، حين يفتح جواز السفر السوري، وتطلّ تلك الهوية البصرية من أول صفحة، يراها المعذب، اللاهث خلف وطنه، المتعب من الانتظار...
تتراءى له كأنها نور على الجبين، كأنها تقول له: "ها أنا... من جديد".
وما أبهى أن يكون هذا الإعلان الفني – البصري – ليس نتاج قرار إداري ولا مرآة لزمن الخشب واللا لون، بل عملًا حيًّا لقلوب اشتاقت إلى البناء لا الهدم، إلى النور لا الغياب، إلى أن ترى صورة طفل، اسمه حمزة الخطيب، ترتسم في السماء لا لتبكي، بل لتبشر بأن زمن قتلة الأطفال قد مضى... ولن يعود.
في تلك اللحظة، حين صعدت صورته في سماء دمشق، مرسومة بطائرات درون، لم تكن السماء مجرد فراغ أزرق، بل محراب أمل، تعانقت فيه التقنية والدمع، الفن والقصاص، لتنهض دمشق، لا من نوم سرمدي، بل من صمت طويل، من كابوس ثقيل، لتقول شيئًا جديدًا.
الهوية البصرية ليست مجرد خطوط وألوان.
إنها جسر بين الأمس والغد، بين ماضٍ تُرك على رفوف الخسارة، ومستقبل يُكتب الآن بخيوط ضوء شامي، بعين مصمم حلم، ففكر، فرسم، فأشرق.
ولربما كانت الريشات الأربع عشرة التي ضمها جناح العقاب، أكثر ما أزعج أولئك الذين اعتادوا تمزيق كل ما يجمع.
فهي ليست خطوطًا للزينة، بل إشارات رمزية لوطن لا يُبتر، لا يُجزأ، ولا يُدار إلا بالحب.
تفاءلوا بسوريا...
فكل ما في هذا الشعار، من انحناءة الجناح إلى بريق العين، يقول: إن الشمس تعود.
وأما الحاقد، فدعوه في عتمته، فالهوية البصرية السورية، التي عانقت سماء دمشق، ورسمت صورة كل ما هو جميل، أكبر من أن تناقش مع حاقد، وأسمى من أن تقارن... بأي شيء آخر.
محمد رافع أبوحوى - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية