حين يجمعنا الجرح ويفرقنا البطريارك

في لحظات الألم الكبرى، حين يُذبح الناس في الكنائس كما ذُبحوا في المساجد والشوارع، وحين يختلط صدى الترانيم بصوت الرصاص، وينهار الحجر وتنبثق الروح، نجد أنفسنا نحن السوريين - مسلمين ومسيحيين، عربًا وكردًا، متدينين وملحدين - على قلب جرحٍ واحد.

يجمعنا الدم متناسين مذاهبنا وزعماء الطوائف الذين يشتتوننا قطعًا متناثرة، ويُقربنا الحداد، رغم تشتيت السنين والسلطة الأسدية البائدة.

لكن، ويا للمفارقة القاسية، حين يخرج رجلٌ ما، لم ينتقد الأسد الذي قتل مليونًا ونصف المليون سوري، فينصّب نفسه حاجزًا بين هذا التوحد العاطفي النبيل، وبين انكساراتنا التي تحتاج ضمادًا لا خناجر، صوتًا لا صمتًا، عدلًا لا تواطؤًا واتهامًا.

البطريرك يوحنا اليازجي، رأس الكنيسة الأرثوذكسية في المشرق، وقف يومًا إلى جوار بشار الأسد، لا كراعٍ لشعبه، بل كمبارك للطغيان، يغض الطرف عن القتلة، وكأن آلاف الجثث التي طافت صورها العالم ليست من شعبه، وكأن الطفل الشهيد في حلب ليس "أخًا في الإنسانية"، وكأن حمزة الخطيب كان نسخةً من فيلم فانتازيا تاريخية، وكأن أم الشهيد في دوما لا تستحق صلاة، وكأن صور قيصر مجرد خرابيش على جدران مسرح تراجيدي.

ذاك الوقوف، بجلبابه المطرّز ووجهه الصامت مع ابتسامته، لم يكن وقوفًا للسلام، بل خذلانًا باسم الدين، وموقفًا يُشبه الشراكة في الجريمة.

ومضت السنون، وحدثت الفاجعة الأخيرة، جريمة الكنيسة في الدويلعة، وسُفك دم المصلين ظلمًا، فارتجف السوريون جميعًا، بقلوبهم قبل أفواههم. 

مسلمون صلّوا على الشهداء، ومسيحيون بكوا مع جيرانهم؛ لم تفرّقهم الهويات، بل جمعتهم الإنسانية. 

أدمعت عيوننا على تلك الطفلة وكأنها حمزة جديد أو تامر الشرعي الجديد.

لكن ها هو البطريرك ذاته، بدل أن يكون صوتًا لهذا الالتفاف النادر النبيل الذي جعل ذات الخمار تتبرع بالدم لذات الصليب، اختار أن يشقّ الصفّ بكلمات مُسيّسة، غريبة، تُشبه بيانات السلطة التي كان أحد مروجيها قبل فرار أسده.

أعلن الحداد، لا على الشهداء، بل على "الحكومة"، وهمّه نقد حكومة وليدة هو وغيره سبب عجزها اليوم.

أراد أن يختطف مشاعر الناس نحو ما يخدم موقفه القديم، الموقف الذي جعل منه صورة في أرشيف القصر الجمهوري، لا في ذاكرة الناس.

أيها البطريرك، حين مات الناس في الغوطة لم تُعلن حدادًا، حين اختنق الأطفال بالكيماوي لم تُصلِّ عليهم، حين بُترت أجساد الآلاف في المعتقلات لم نسمعك، وحين وحدتنا هذه الجريمة المؤلمة، خرجت لتفرقنا.

كنا ننتظر منك أن تُمسك بيد أم شهيد، لا أن تُصافح يد القاتل.

كنا ننتظر صلاةً، لا بيانًا، وتناسينا كل شيء حتى جئت بخطابك الذي يحكي ما بداخلك.
لعلّك لا تدري، أو تدري وتتجاهل، أن الكنائس والمساجد حين تتحول إلى مؤسسة سياسية، تفقد دفء الرسالة. وأن الرعية حين ترى راعيها في بلاط الملوك، تنكسر الثقة، وينشطر القلب، وهذا ما فعلته سابقًا مع نظام سفاح متجذر عبر 60 عامًا، ولم تكن إلا معه ومبررًا له. وتنتهز الفرصة اليوم لتنال من سلطة أكبر أخطائها أنها فتحت صفحة جديدة مع مروجي الأسد أمثالك.

توحّدنا الجراح، ويفرقنا التجاهل. يجمعنا الحزن، وتفرقنا مواقف تُخزي السيرة وتُدنّس الذاكرة.

حين يجمعنا الجرح، ويفرقنا البطريارك... نبكي على وطنٍ لم يبقَ فيه من الأبوة إلا الصور، ومن الرعاية إلا التصريحات.

أما نحن، فسنظل نحزن معًا، ونصلي معًا، ونتوحد في المصيبة... رغم كل من يحاول شقّنا باسم الدين.

الرحمة لضحايا الدويلعة، والعار للمجرمين الذين يقتلون باسم الدين والدين منهم براء.

محمد رافع أبوحوى - زمان الوصل
(72)    هل أعجبتك المقالة (29)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي