في أوج الأزمة الاقتصادية التي عصفت بسوريا قبل سقوط الأسد، وبينما يقف المواطنون في طوابير طويلة للحصول على بضع لترات من الوقود، تكشفت خيوط شبكة فساد منظمة لتهريب وسرقة المشتقات النفطية، عملت تحت غطاء مسمى "مازوت وبنزين الأصدقاء"، تاركةً وراءها خسائر فادحة في الاقتصاد الوطني ومفاقمة لمعاناة السوريين.
تعود بداية القصة، بحسب مصادر مطلعة، إلى عام 2019 في مدينة حلب، حيث يُزعم أن قائد "لواء القدس"، محمد السعيد، نسق مع محافظ حلب السابق، حسين دياب، والمدير التجاري في شركة "محروقات" آنذاك مصطفى حصوية، لإطلاق عملية واسعة لتهريب المشتقات النفطية وبيعها في السوق السوداء. ووفقاً للمصادر، تم استصدار موافقات رسمية لتوفير غطاء قانوني لهذه العمليات، مما سمح بإدخال كميات كبيرة من الوقود المهرب إلى حلب.
كان يتم بيع هذه المشتقات النفطية بأسعار السوق السوداء، وتوزيعها على محطات وقود محددة تحت لافتة "وقود الأصدقاء". هذا المسمى، الذي لم يكن له أي صفة رسمية، كان بمثابة درع حماية لهذه المحطات من أي مساءلة قانونية أو رقابة من قبل مديريات التموين والجمارك. وبذلك، أصبح من المستحيل تقريبًا معرفة الكميات النظامية التي بحوزة هذه المحطات من تلك المهربة، مما فتح الباب على مصراعيه لنهب منظم.
لم تقتصر هذه الممارسة على حلب، بل سرعان ما امتدت لتشمل محافظات أخرى مثل حماة وحمص وريف دمشق. وانخرط كبار تجار المحروقات في هذه الشبكة، حيث كانوا يحصلون على مواد نفطية مسروقة من القطاع العام ويقومون بتصريفها تحت ذريعة "وقود الأصدقاء" للتهرب من الرقابة والضرائب. وتزامنت هذه العمليات مع تدفق كميات ضخمة من المحروقات المهربة عبر الحدود اللبنانية، مما أدى إلى تفاقم الأزمة.
اجتماع مشؤوم وقسائم مربحة
شهدت هذه الشبكة تطورًا خطيرًا في 5 سبتمبر/أيلول 2020، حيث عُقد اجتماع في مقر شعبة المخابرات العسكرية، ضم اللواء كفاح ملحم، رئيس الشعبة، وقائد لواء القدس محمد سعيد، والمدير التجاري لشركة "محروقات"، ووفقاً للمعلومات ، تمخض هذا الاجتماع عن قرار بإصدار "قسائم" أو "مهمات" خاصة تُمنح لسعيد، تخوله صرف كميات غير محددة من المحروقات من أي محطة وقود في البلاد.
تحولت هذه القسائم بسرعة إلى سلعة ثمينة في السوق السوداء، حيث كانت تباع بأسعار خيالية، مما أدر أرباحًا طائلة على أفراد الشبكة.

إتاوات للحماية وارتفاع جنوني لسعر الصرف
ولضمان استمرارية عمل هذه المنظومة، فُرض على أصحاب محطات الوقود الراغبين في الانضمام إلى شبكة "الأصدقاء" دفع إتاوات باهظة تصل، بحسب بعض التقديرات، إلى 50 ألف دولار أمريكي للمحطة الواحدة. هذا المبلغ كان يضمن للمحطة الحصول على "إذن" يمكنها من حيازة وبيع المشتقات النفطية المهربة دون خوف من المحاسبة.
هذه العمليات غير المشروعة ضخت كتلة نقدية هائلة وغير رسمية في السوق، مما أدى، بحسب محللين اقتصاديين، إلى ارتفاع جنوني في سعر صرف العملات الأجنبية مقابل الليرة السورية، وزاد من تآكل القوة الشرائية للمواطنين.
في سياق متصل، شهد عام 2020 إعفاء عدد من المديرين في شركة "محروقات" ممن رفضوا، بحسب المصادر، الانصياع لأوامر هذه الشبكة المتنفذة والمشاركة في منظومة الفساد.
وتطالب جهات رقابية مستقلة اليوم بضرورة فتح تحقيق شامل والتدقيق في قيود وسجلات جميع محطات الوقود التي عملت تحت مسمى "وقود الأصدقاء" لتحصيل الضرر الذي لحق بالخزينة العامة.
ومما يزيد الأمر تعقيدًا، هو الحديث عن ملايين اللترات من الوقود التي كانت قد دخلت البلاد كدعم من إيران و"حزب الله" تحت بند "دعم العمليات العسكرية" قبل تحرير العديد من المناطق. ومع انتهاء العمليات العسكرية في تلك المناطق، يُعتقد أن أصحاب محطات وقود متواطئين قاموا بالاستيلاء على هذه الكميات وتصريفها في السوق السوداء، محققين ثروات طائلة على حساب الدعم المخصص للمجهود الحربي آنذاك.
تبقى قضية "وقود الأصدقاء" شاهدًا صارخًا على عمق الفساد الذي استشرى في مفاصل الدولة السورية خلال سنوات الحرب، وكيف تحولت معاناة المواطنين وأزماتهم إلى مصدر ثراء فاحش لشبكات منظمة من أمراء الحرب والتجار المتنفذين.
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية