تمهيد:
إن الدارس للتاريخ بعين فاحصة تترصد سنن الله في المجتمعات وقوانين الاجتماع الانساني وهو ما أمرنا به إنسانياً لأخذ العبر وإسلامياً لإقامة الذكر، يدرك أنه في المراحل التالية للثورات والتحولات الكبرى، تبرز ظواهر نفسية وسياسية معقدة في المجتمعات الخارجة من رحم القهر والفوضى، بل قل الموت أحياناً لا جوازاً على التعبير. ومن بين أهم هذه الظواهر: تلك الرغبة الجامحة في حماية الدولة من أي نقد، حتى وإن كان بناءً وضرورياً لصالح التقويم والتحسين، حيث يصبح فيها انتقاد الحكومة أو مؤسسات الدولة وحتى أشخاصها فعلاً مداناً، يُقابل بالاتهام بالخيانة والتخريب أو العمالة، في خلط غير مقصود غالباً ومقصود أحيانا بين أعداءالمنتصرين المتربصين من المتسترين نفاقاً أو الظاهرين تكويعاً، وبين أبناء الثورة من الأحرار المنتصرين أنفسهم الذين يدينون لفكرة الوطن والوعي بالحرية فقط لا لأي شخوص أو رموز. وليس من تجلي راهن لهذه الظاهرة أكثر من مشهد اليوم لسوريا بعد انتصار الثورة.
المفهوم السياسي للظاهرة:
يمكن تعريف هذه الظاهرة سياسياً بما نستطيع أن نطلق عليه مصطلح ـ"الولاء الشمولي للدولة"، وهي حالة من التماهي المطلق مع كيان الدولة، تُجرِّد المجتمع من حقه في النقد والمساءلة. في هذه الحالة، تتحول الدولة من أداة في خدمة الناس، إلى كيان مقدس لا يجوز الاقتراب منه أو المساس بشخوصه. تُبنى هذه القداسة غالباً على خلفية الخوف من الفوضى، والرعب من مجرد التفكير برهانات الانتكاس، أو على سردية الدولة المُنقذة، أو النظام المُخلّص، مما يجعل أي نقد لها تهديداً للكيان الوطني نفسه.
ويتفرع هذا الولاء الشمولي إلى مستويين:
• على مستوى السلطة المركزية: تُختزل الدولة في الحكومة القائمة، والحكومة في رأس السلطة والقيادة السياسية، مما يُنتج بنية سياسية مغلقة تُعطِّل آليات المحاسبة وتُضخِّم الدور التنفيذي على حساب التشريعي والقضائي.
• وعلى المستوى الشعبي والإعلامي: تُبنى سرديات وطنية جديدة تُربط فيها سلامة الوطن بصمت المواطن. فتصبح الوطنية مرادفاً للمجاراة، ويُنظر إلى النقد باعتباره خيانة رمزية حتى وإن جاء باسم الإصلاح.
هذه الحالة لا تختلف كثيرًا عمّا شهدته أنظمة شمولية عبر التاريخ كإيطاليا الفاشية وألمانيا النازية - وحتى سوريا البعثية سابقاً وهنا مكمن السر أي اننا لم نتخلص ثقافياً من رواسب هذه الظاهرة البعثية الأسدية - حيث اختزلت الأمة في شخص الحاكم، والدولة في شعارات مفرغة من المضمون. لكن المفارقة تكمن اليوم في أن هذه الظاهرة تنبع من داخل مجتمعات خارجة من ثورات ضد هذه المفاهيم أساساً، كان يفترض بها أن تؤسس لثقافة مساءلة، فإذا ببعض أهلها وأبناء ثورتها أنفسهم يحاولون إعادة إنتاج الاستبداد في لبوس رمزي جديد يختزله شعار المرحلة الجديد وتغير رموزه.
ومن هنا، فإن أخطر ما يهدد الدولة في هذه المرحلة ليس النقد بل غيابه؛ لأن الدولة التي لا تُنتقد، هي دولة تتحول إلى عقيدة مغلقة لا مؤسسة قابلة للنمو والإصلاح.
الجذور الفلسفية للظاهرة:
ترتبط هذه الظاهرة بما يُعرف في الفلسفة السياسية بـ"الثيولوجيا السياسية"، حيث يتم تحويل الدولة إلى كيان فوق بشري"تأليه الدولة"، يشبه من حيث المنطق الديني صورة الإله المتعالي الذي لا يُسأل عما يفعل. حيث تصبح الدولة بمثابة الإله الجديد في المجتمعات الحديثة، تُقدَّم لها الطاعة دون مساءلة، وتُعطى صفات الكمال والحكمة. ، ويزداد ذلك التماهي في تصنيم الدولة إذا كان ثوارها بالأمس قادتها اليوم من خلفية دينية مبنية على الجهاد المقدس. في المقابل، يتم تجريد الفرد من موقعه كمواطن نقدي فاعل، ويُعاد إنتاجه ككائن تابع، يجد أمانه في خضوعه.
وقد انتقد هذا التوجه الفيلسوف الألماني كارل بوبر بشدة في كتابه "المجتمع المفتوح وأعداؤه"، حيث رأى أن تحويل الدولة إلى كيان مقدس يعيد إنتاج أساطير الطاعة القديمة ويغلق باب الإصلاح، لأن كل مساءلة تُعد طعنًا في قداسة المنظومة. كما حذّر ميشيل فوكو من وهم المعرفة المطلقة للسلطة، مبيناً أن الدولة حين تضع ذاتها في موقع العارف الأوحد، تصبح كل سلطة معرفة، وكل معرفة أداة قمع.
وهذا النوع من التفكير يُنتج نماذج سياسية مغلقة، تُحارب النقد بوصفه فتنة، وتُجيّش الجماهير دفاعاً عن مؤسسات لا تُخطئ، في ظل ثقافة سائدة ترى في الدولة شيئاً يجب الطاعة له لا التعاقد معه.
أما من منظور إسلامي يتحرى سنن الله وقوانينه القرآنية، فإن هذا النمط من تأليه الدولة يتعارض جذرياً مع ما يمكن تسميته بـ"التوحيد السياسي"استقراءً من مصطلح التوحيد في الإسلام؛ أي نزع العصمة السياسية عن البشر أفراداً أو جماعات. فالله وحده هو الذي لا يُسأل عما يفعل، أما غيره فـ"يسألون" و"يحاسبون".
وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن تؤسس لهذا الفهم، منها قوله تعالى: ﴿وقِفُوهُم إنهم مسؤولون﴾ (الصافات: 24)، وهو مبدأ قرآني جوهري يجعل كل سلطة خاضعة للحساب، وكل فعل سياسي معرض للمساءلة. بل إن النبوة نفسها لم تكن معصومة من النقد، كما في آية: ﴿عفا الله عنك لم أذنت لهم﴾ (التوبة: 43)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ﴾ (التحريم:)، في إشارة مباشرة لضرورة تصحيح القرار السياسي حتى في أعلى درجات الطهر الرسالي.
وهذا حقيقة ما تقلده أصحاب الرسول في مواطن كثيرة مشهورة يضيق المقال على حصرها نذكر منها على سبل التذكير فقط: (احتلال الابار في معركة بدر، رغبة اهل المدينة الخروج إلى أحد رغم رغبة الرسول البقاء فيها، حفر الخندق، صلح الحديبة ومواقف عمر وبعض الصحابة من صيغة الصلح، وغيرها الكثير مما حدث في عهد الخلافة الراشدة أيضاً).
إن الرؤية القرآنية تنطلق من تصور للإنسان كفاعل حرّ، يُحاسِب ويُحاسَب، ومن تصور للدولة كأداة لتحقيق مقاصد ضبط النظام العام والعمران الحضاري على أسس العدل لا كمصدر مطلق للحق. ومن هنا، فإن أي خطاب سياسي يُلبِس الدولة قداسة زائفة، هو في حقيقته خروج عن مقاصد التوحيد.
الجذر النفسي والاجتماعي:
تتجذر هذه الظاهرة في عمق النفس الجمعية الخارجة من صدمات كبرى، بما يمكن تسميته بـ"عقدة الإنقاذ المقدس" أو "متلازمة المخلّص". وهي حالة نفسية اجتماعية تنشأ حين يفقد الناس الإحساس بالأمان الوجودي والسياسي خلال سنوات من القهر أو الحروب أو الانهيارات، متطلعين لمن يخلصهم من طريق الآلام الذي يكابدوه، لذا يتعلقون بأول سلطة جديدة تَعِد بالاستقرار، ويُسقطون عليها أمنياتهم العاطفية وأحياناً معتقداتهم النبؤاتية أكثر من عقلهم النقدي. هنا تتحول الدولة من مؤسسة تعاقدية إلى رمزية علاجية، تُقدَّس لا لأنها تحقق العدالة، بل لأنها تحجب عن الناس شبح الفوضى،.
تظهر هذه العقدة من خلال التمسك المرضي بفكرة أن البديل الوحيد عن الولاء المطلق هو السقوط مجددًا في الهاوية، فيغدو النقد خيانة، والمساءلة جريمة، والتفكير المختلف "ترفًا لا وقت له". وهذا ما يسهم في شيوع السلوك الجمعي الذي يُعرف في علم النفس السياسي باسم "الاستبطان القمعي"، حيث يُمارس الأفراد الرقابة على أنفسهم، دفاعًا عن سلطة قد لا تطلب منهم الطاعة فحسب، بل التقديس أيضاً، وذلك ما تصدقه مشاهد التاريخ التي لا تحصى.
أما اجتماعياً، فتلعب البُنى التقليدية (العشيرة، الطائفة، الذكورية، الأبوية والآبائية) دورًا في تكريس ثقافة التبعية. فهذه البنى تُعيد إنتاج الطاعة من خلال لغة الشرف، والولاء، والهيبة، مما يجعل الانتقاد فعلاً شاذًا يهدد السلم العائلي أو الطائفي، وليس فقط السياسي. وتُصبح العلاقات العمودية أساس الفهم السياسي، فلا مكان للمساءلة بل للمبايعة.
إسقاطات على المشهد ما بعد الثورة في سوريا اليوم:
إن تاريخ 8/12/2024 الذي هو لحظة مفصلية في تاريخ سوريا اليوم، يشكل في الوعي السوري الحالي ما يشبه لحظة الولادة من مخاض عسير، وفجر مشرق لليل ثقيل وطويل، ولحظة اليقظة من كابوس ربص على صدور السوريين لعقود. لذلك بدأت موجة من الانفعال الشعبي تُقدّم الدولة الجديدة بوصفها الخلاص الأخير من عبثية الخراب، واليد التي لا تُخطئ بعد أن انتصرت الثورة. غير أن هذا الاندفاع العاطفي نحو الدولة لم يترافق مع تأسيس حقيقي لعقلية نقدية، بل على العكس، عاد الخطاب التحريمي للنقد ليحكم المجال العام، ولكن هذه المرة باسم الثورة لا النظام.
إن شعار "لا تنتقدوا الدولة، فالدولة تعرف أكثر" لم يعد نابعًا من رأس السلطة وحده، بل أصبح يتردد في أحاديث الناس، على منصات التواصل، وفي الإعلام، وحتى في نبرة بعض المعارضين القدامى الذين تحوّلوا إلى حماة للنظام الجديد باسم الواقعية السياسية.
شهدنا مثلاً حملات تخوين علنية ضد صحفيين وناشطين كتبوا عن العدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين، ربما طالت في بعض منها الفساد الإداري في بعض المؤسسات الثورية الناشئة، أو تساءلوا عن الأولويات الاقتصادية للمرحلة القادمة، أو دعوا إلى نقاش وطني حول شكل النظام السياسي الجديد. هؤلاء لم يُجابَهوا بالحجج، بل باتهامات جاهزة: أنك تهدم الدولة، أنك عميل للفوضى، أنك لم تفهم معنى المرحلة.
المفارقة المريرة أن الذهنية البعثية القديمة التي كانت تحتكر الوطنية وتجرّم النقد، أُعيد تدويرها بلغة ثورية، فباتت الثورة نفسها تُستخدم كأداة إسكات بدل أن تكون فضاءً للحرية. وهذا يعيد إلى الأذهان مقولة جان بول سارتر: "الثورات التي لا تنتج حرية، تُنتج طغيانًا بلون مختلف".
وهكذا، أصبحت الوطنية تُقاس بكمية التصفيق، لا بعمق التساؤل. وتحول الخوف من السقوط مجددًا إلى سيف مسلط على كل عقل نقدي، فانكفأ كثير من المثقفين، وارتبك المجتمع المدني، واختُزلت الثورة في شعارات الدولة لا في منطقها التحرري.
دروس مقارنة من تجارب الآخرين:
قبل التعليق على هذه الظاهرة من واقع المجتمع السوري، من الهمية تسليط الضوء على بعض التجارب من وحي القصة:
1. ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية: شُجع في ألمانيا نموذج "Vergangenheitsbewältigung"، أي "مواجهة الماضي" وبتعبير أكثر دقة "الاعتراف بالماضي الأليم والتصالح معه" ، حيث خضع المجتمع والدولة معاً لنقد ذاتي علني وشامل. أُعيد بناء الهوية الألمانية على أساس القبول بالخطأ وفتح المجال أمام النقد المؤسساتي والشعبي. أنشئت مؤسسات مستقلة للمساءلة، ومُنحت حرية الصحافة والأكاديمية أدوارًا جوهرية في إعادة صياغة العلاقة بين المواطن والدولة.
2. جنوب إفريقيا بعد الأبارتهايد: أسّست لجنة "الحقيقة والمصالحة" التي شجعت على كشف الانتهاكات وليس التغطية عليها. أُشرك المجتمع في صناعة العدالة الجديدة، فكانت الدولة تُحاسَب على لسان الضحايا، لا اسمهم. بهذا النموذج، أُعيد الاعتبار لأخلاقية الدولة الحديثة، وتم الفصل بين مفهوم السلطة السياسية ومفهوم الحقيقة.
3. تشيلي بعد بينوشيه: بعد عقود من الحكم العسكري الاستبدادي بقيادة الجنرال أوغستو بينوشيه، شهدت تشيلي انتقالاً ديمقراطياً جاداً اعتمد على إصلاح المؤسسات القانونية وتعزيز دور القضاء المستقل، بالإضافة إلى فتح ملفات الانتهاكات السابقة من خلال لجان التحقيق والمساءلة. لم يتم تقديس الدولة الجديدة بل خضعت منذ البداية لفحص شعبي ودستوري دائم، سمح ببناء مجتمع أكثر وعياً بمفهوم العدالة السياسية.
4. كوريا الجنوبية بعد الحكم العسكري: عاشت كوريا الجنوبية لعقود تحت أنظمة عسكرية استبدادية حتى نهاية الثمانينات، لكنها تمكنت من التحول إلى دولة ديمقراطية من خلال نضال مدني واسع واحتجاجات طلابية وشعبية أدت إلى انتخابات حرة. الدولة الجديدة لم تنشأ بوصفها مقدسة، بل كمشروع مشترك قابل للنقد والتصحيح. وهكذا، استقرت الديمقراطية هناك على مبدأ أن شرعية الدولة تقاس بمدى خضوعها للمساءلة لا بمكانتها الرمزية. الاستقرار وضرورة.
ضرورة المقاربة الأخلاقية الواقعية:
إن المفهوم الأساسي في العلاقة بين السلطة والمجتمع هو التحرر من التقديس البشري، مع الاحتكام إلى ميزان الحق والعدل. فالعلاقة بين المواطن والدولة في المنظور الأخلاقي ليست علاقة تبعية عمياء، بل عقدًا يقوم على أساس المسؤولية المتبادلة، حيث تُقاس شرعية الحكم بمدى التزامه بمقاصد العدل، لا بمكانته الرمزية أو شعاراته الثورية، وتقاس وطنية الفرد بمدى التزامه بقيم الحق والعدل كنهج في القيام بواجباته وممارسته حقوقه تجاه مجتمعه ودولته.
في هذا السياق، تُصبح القيم القرآنية مثل القسط، الشورى، والصدق أدوات معيارية لمساءلة السلطة. فالله تعالى يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ (النساء: 135)، وهو ما يؤكد أن معيار العدل في القرآن ليس ما تراه الدولة أو الناس حقًا، بل ما يطابق الحق الإلهي، ويحذر القرآن من كتمان الشهادة السياسية والأخلاقية حتى على أقرب الناس فما بالك على موظفين مفوضين بالخدمة، حيث يكؤكد ذلك في مواضع أخرى: ﴿ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه﴾ (البقرة: 283)، فالصمت عن الانحرافات ليس حيادًا، بل مشاركة خفية في ظلم لا يُبنى عليه إصلاح. أما الشورى، فهي ليست مجرّد مبدأ دستوري شكلي، بل روح قرآنية قائمة على الشهادة والمساءلة ورفض الاستبداد بالرأي: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ (الشورى: 38)
ومن منظور سياسي واقعي، فإن غياب هذه الأخلاقيات عن المجال العام يجعل من الدولة بنية مغلقة قائمة على الخوف لا على القناعة. فتصبح المواطنة مجرّد صمت جماعي، والوطنية أداة طردٍ للمخالف، والدين ذاته يُستعمل لتخدير الضمير العام. من هنا، فإن إحياء البعد الأخلاقي القرآني بهذا الشكل في السياسة لا يعني حينها أسلمة الدولة، بل استعادة الإنسان الحر كما كرمه الله كمركز للمسؤولية، والدولة كوسيلة للعدالة لا كغاية في ذاتها.
لا لسردية بوش السياسية:
إن السردية السياسية تحت قاعدة "من ليس معي فهو ضدي"؛ بين أعداء للدولة يُراد توصيفهم كمتربصين يحملون أجندات دنيئة تهدد الوطن، وموالين متماهين مع الدولة إلى حد المداهنة، يشكّل اختزالًا خطيرًا للوعي الجمعي، ويُقزّم فضاء المشاركة إلى مجرد مباركة أو عداوة.
هذا النمط من التفكير الثنائي يُقصي كل المناطق الأخرى من الرأي والملونة على اتساع ألوان الطيف الضوئي، والتي تمثل في الواقع المساحة الأهم للإصلاح والتقويم وصنع الحضارة وإقامة العمران والبناء والجمال في المجتمع. فلا يُترك مجال للمواطن الناقد أو المثقف المستقل أو صاحب الرأي المختلف، لأنهم لا ينتمون لأي من القطبين. فيُصبح الوعي النقدي تهمة، والحياد موقفًا جبانًا، ويُجرَّم كل من يسعى لبناء سردية ثالثة تقوم على الحق والمصلحة العامة.
من منظور فلسفي، هذه الحالة تُمثّل ما يسميه هابرماس بـ"أزمة التواصل العام"، حيث يُخنق الفضاء العمومي ويُحتكر الخطاب من قبل من يملكون القوة لا من يملكون الحجة. أما من منظور قرآني، فهي تخالف قوله تعالى: ﴿ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾ (المائدة: 8)، لأن السردية الثنائية تقوم على الشنآن، لا على العدل.
إن بناء الدولة الحديثة يتطلب ما هو أوسع من معسكرين متقابلين؛ يتطلب مساحة ثالثة يجتمع فيها المختلفون على القسط، لا على الانقسام. مع الانتباه جيداً أن مهمة هذا التقسيم تخدم بكل تأكيد هذه المرة معسكر أعداء الأمة المتربصين حقيقة والمتغلغلين في المجتمع نفسه من خلال مطارق الهدم التي يحملونها نقضاً لا نقداً، لا بما يبديه أصحاب معاول النقد البناء من آراء تدعم الإصلاح وتساعد الحكومة نفسها على إعادة البناء وفق أسس صحيحة والالتزام بخط تحسيني مضطرد يضمن الاستدامة. وذلك من خلال دفع الحكومة إلى التقوقع على ذاتها والانكفاء على آرائها المحصنة عن النقد عند مؤيديها من جهة، ومن جهة أخرى إعطاء المسوغ لأعداء الأمة لتوظيف هذا الانقسام لصالحهم بالتسويق المضلل لكل رأي ناقد بناء على أنه معارض يطالب بإسقاط النظام وهدم الدولة ضمن إطار مقاييس مؤيدي الدولة أنفسهم بكل أسف.
ختاماً؛ من اللافت أن كثيراً من هؤلاء المدافعين عن الدولة الجديدة ضمن إطار القداسة هم من ضحايا الدولة القديمة، ما يطرح سؤالاً مريراً: هل نحن نعيد إنتاج الاستبداد تحت عباءة الثورة؟ هذه المفارقة تعني أن الثورة لم تنجح بعد في تأسيس عقل نقدي جماعي، وأن النخب السياسية والثقافية مطالبة اليوم ببناء خطاب جديد، يرسّخ مبدأ: أن نقد الدولة ليس خيانة، بل جوهر المواطنة.
إن جوهر الدولة الحديثة لا يقوم على الطاعة بل على التوازن بين السلطة والمساءلة. وأي دولة تُرفع فوق النقد، تتحول إلى نسخة محدثة من الاستبداد. في سوريا الجديدة، نحتاج إلى تثوير الوعي لا فقط المؤسسات، وإلى بناء دولة لا تخاف النقد، بل تنمو به بشكل مستدام.
إن أخطر ما قد تواجهه الثورات ليس فقط أعداؤها، بل أنصارها حين يتحولون إلى حرّاس للصمت الأعمى، بدل أن يكونوا بناة للضمير الجمعي الواعي.
أيمن قاسم الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية