يروى الكاتب الكبير أنيس منصور فى كتابه " عاشوا فى حياتى" قصة طريفة من القصص التى حدثت له فى الريف المصرى ..
كان والده يعمل مشرفاً على الأرض الزراعية التى يملكها عز الدين بك يكن بناحية " نوب طريف " مركز السنبلاوين دقهلية ، وفى هذه الفترة كان على الأسرة أن تتبع الزوج أينما حل أو ارتحل ، فتركت المنصورة وأقامت بالقرية فى بيت مكون من طابقين تحيط به حديقة وله باب خشبى ضخم يحلو للخفير أن يتمدد أمامه إلى جوار زوجته نهاراً وفى الليل ينتقل إلى وراء الباب ، ليكون على قرب لتلبية نداء الوالد فى أى ساعة من ساعات الليل أو النهار ، وللبيت ملحق عبارة عن اسطبل للجاموس والخيل والجاموس والأغنام .
وذات صباح تقررذهاب الصغير إلى " كتاب القرية" فارتدى جلباباً أبيض ذا خطوط زرقاء وحذاءً لامعاً ونادى الوالد على الخفير وأمره ألا يذهب إلى السوق كالعادة وعليه أن يحضر الحمار ويضع على ظهره البردعة ، وأمره :
ـ اذهب بـ" صلاح " إلى الُكتاب ..
ويؤكد كاتبنا الكبير أن اسم " صلاح" كان هو اسمه فى تلك الفترة ، صحا صلاح صبيحة ذلك اليوم مبكراً حيث أعدت له أمه سندويتشاً حشته بالجبن الأبيض الذى شاهد أمه وهى تصنعه حيث تضع سائل يشبه لون الشاى فى اللبن حتى إذا جاء الصباح أصبح جبناً ..
وبعد قليل جاء رجل وأخذ يقرأ فوق رأس الصغير بعض آى القرأن الكريم ثم دارت الأم من حوله ببعض البخور الذى انتشر عبقه فى المكان وجاءت بسيدة عجوز لتردد عليه الرقية لئلا يصاب بالحسد ..
ولم يشعر الصغير بشئ إلا وهو يمشى فوق كمية من البيض الملون باللون الأزرق " يطقطق" تحت رجليه ثم انطلقت زغاريد السيدة العجوز وهى تؤكد ذهاب الشر عن الصغير هذا اليوم .
وجاء الحمار وتوقف أمام باب البيت وحمل الخفير الصغير ووضعه فوق البردعة بينما زوجته توسع الطريق وترش الماء ذات اليمين وذات الشمال ولسانها يلهج بالدعاء لله بأن يبعد عنه حسد الحاسدين ..
ووصل الركب حيث باب " كُتاب القرية" وحاول الصغير النزول ولكن الخفير منعه واستمهله حتى يقف على الأمر ولم يغب كثيراً وعاد على الفور ليؤكد بأن " سيدنا" مريض وعليهم العودة فى الغد .
فى اليوم التالى ذهب الصغير إلى الكتاب مرتدياً ملابسه البيضاء وحذائه اللأمع فوجد عدداً من الأطفال يقفون بباب " سيدنا" وانتظروا حتى خرج عليهم طفل وأخبرهم بأن عليهم العودة فى الغد .
وعاد " صلاح " فى اليوم الثالث فوجد أطفالاً بلا حصر يقفون عند الباب بينهم ابن العمدة وابن شيخ البلد وابن الخولى وأطفال لمختلف أهل القرية ، دخلوا جميعاً إلى غرفة معتمة لا تدخلها الشمس إلا بالكاد فجلسوا على أرض مغطاة بالقش وتكوموا فى أحد أركانها ، وبعد قليل دخلت عليهم سيدة ضخمة أشارت للأطفال فى كل اتجاه فتوزعوا على الفور كل فى جهة ثم أسندت لكل واحد منهم عملاً يقوم به مابين تنظيف حلل " الطبيخ" بالتراب أوفرط " كيزان" الذرة ، أونشر الغسيل على حبال السقف أوالإمساك بمقشة يكنس بها البيت أو جمع الحطب ووضعه على الكانون ، وأسند إلى " صلاح" رش الماء على الأرض التى قام زميله بكنسها ..
وأبدى الصغير تذمره من العمل فلكزته السيدة فى بطنه وراحت تعلمه كيفية العمل مؤكدة سوف يتعلم بمرور الأيام .
وفى اليوم التالى جاءت السيدة فى ثياب جميلة فشدت انتباه الصغير ولحظت السيدة نظرات الصغير لها فراحت تعنفه بسبب ثم أمرته بالذهاب للكنس والتنظيف تحت الجاموسة الراقدة التى تغط فى نوم عميق وحذرته من إيقاظها وطلبت منه أن يسوى الأرض بعد ذلك بالمقشة ورش التراب الجاف على الأرض بعد الإنتهاء وطلبت منه فى اليوم التالى حمل هذه الأشياء لخارج البيت ، فى الوقت الذى أسندت للأطفال الآخرين مهام أخرى.
وكان قد تناهى للأسماع صوت نشيج طفل يبكى وعرفوا أنه ابن شيخ البلد الذى تلقى تواً "علقة ساخنة " بسبب اهماله بعد أن اندلق على الأرض مقدار اللبن الذى قام بحلبه من ثدى الماعز ، وأخذت السيدة تعلمه كيفية القيام بالعمل دون أى اهمال .
كان " سيدنا " يجلس فوق مصطبة مرتفعة عن الأرض فرش عليها قطعة من الحصير ويقوم بتحفيظ الأطفال سورة البقرة ، وكانت الغرفة التى يتلقون فيها الدرس ضيقة لها نافذة عالية غطيت أرضيتها بالقش ، ومن النافذة كانت تسبح ذرات بيضاء فى شعاع أشعة الشمس الداخلة ، وكان الأطفال يهمسون لبعضهم البعض :
ـ أن هذه الذرات ليست سوى ملائكة.
كان " سيدنا " يضع فوق رأسه عمامة ضخمة ويجلس فوق المصطبة بقامته الضخمة وبمنكبيه العريضين يسد عن الجميع ضوء الشمس ولا يكف عن الميل يميناً ويساراً فى جلسته ثم ينادى على الأطفال واحداً بعد الآخر فيبلغه السلام لوالده وعليه ألا ينسى " المعلوم " فالشيخ فى حاجة ماسة للنقود ..
ثم يؤكد " سيدنا" على تحفيظهم سورة الفاتحة ليبدأوا بعدها فى حفظ سورة البقرة ..
وذات يوم طلب الأب من ابنه تسميع ماحفظ من سورة البقرة ولكنه لم ينطق مخارج الحروف كما يجب ثلاث مرات ، وأوضح الي لإبنه بأن عليه الحفظ جيداً لأن القرآن الكريم كتاب الله العظيم يختلف فى قراءته كثيراً عن أى كتاب ..
ـــــــــــــــــــــ
بورسعيد
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية