أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

زيارة القدس وشبهة التطبيع... زهير الخويلدي

" الفرق جوهري بين أن تعتقد أنك تعرف وأن تعرف كيف تعتقد"
إذا كان قدر الشعوب العربية أن تعاني من داء الشمولية والتعصب والتأخر وذلك لغياب المؤسسات الديمقراطية المؤهلة لتسيير شؤون الناس في كنف العدالة والمساواة وإذا كانت مأساتها في كون النخب السياسية والثقافية تعيش حياة البذخ منطوية على نفسها ولا تكترث بما سيحدث في المستقبل ونتيجة لذلك ترزح الطبقة الشعبية في نير الاحتياج والفقر والجهل وتدني المستوى التعليمي والصحي والمعيشي فإن واقع الشعب الفلسطيني قد ابتلي بعدة آفات أولها الكيان الغاصب الذي زرع على أرضه الرعب والحرب وهجّر عائلاته ونهب ثرواته واستند إلى عقيدة عنصرية ونظرية مغلقة ومعادية للإنسانية ،أما الآفة الثانية فهي تشتت حركة التحرر العربية وحالة الانقسام الفلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة وبين فتح وحماس وبين العلمانيين والإسلاميين وضياع مرجعية القرار السيادي بين حكومة رام الله المنصبة وحكومة غزة المقالة وتراجع التأييد الشعب لخيار السلام مقابل الأرض وتزايد مؤيدي الكفاح المسلح من أجل تحرير كل الوطن من النهر إلى البحر،في حين أن الآفة الثالثة هي انحسار التأييد العربي والإسلامي الرسمي للقضية الفلسطينية وللحقوق الثابتة والتاريخية للشعب في الداخل وفي الشتات والإبقاء على مساندة الشارع وجمعيات المجتمع المدني، أضف إلى تفشي حالة الخذلان والعزوف عن تقديم الدعم اللوجستي للنهج المقاوم وتسارع إيقاع خطى الهرولة نحو التطبيع والاعتراف ب"الجار الإسرائيلي" دون إحراز أي تقدم في حل المشاكل العالقة ودون إيقاف العدو لمسلسل الإبادة والتحرش والتمييز.
إذا كانت حالة التأخر العربي نتيجة طبيعية للأطماع الاستعمارية الغربية فإن حالة الانقسام الفلسطيني وتصفية القضية وتعثر المشروع الوطني الانعتاقي هي بسبب اختلاف النظم الحاكمة عربيا وإسلاميا. وإذا حاول العقل الحضاري تحقيق الاستفاقة من جديد فإنه مطالب بتحريك المياه الآسنة وتجنيد الجمعيات الأهلية في سبيل عرض القضايا الخلافية على النقاش العمومي والتشجيع على التشبث بالثوابت الوطنية.
في هذا السياق يأتي الجدل حول واجب الحج إلى القدس والخوف من السقوط في هاوية التطبيع وكثر الحديث عن إمكانية استئناف العرب مسلمين ومسيحيين الزيارة إلى الأراضي الفلسطينية وبالتحديد إلى الأماكن المقدسة من أجل الحج والتعرف عليها وذلك قصد التخفيف عن السكان الشعور بالغربة والمعاناة ويكون بالتالي نقطة مسجلة في رصيد المنهج الوطني الذي يحاول جاهدا إيقاف حمى التطبيع الثقافي والفني الذي ظهر في الآونة الأخيرة باسم السياحة والشراكة الاقتصادية.
لكن أن تدعو شخصيات مقدسية دينية مثل الشيخ تيسير التميمي قاصي القضاة المتقاعد ورئيس الهيئة الإسلامية والمسيحية لنصرة القدس والمقدسات معروفة بصلابتها في النضال وبتصديها لمشروع الاحتلال الرامي إلى تهويد أرض فلسطين إلى نصرة القدس بشد الرحال إليه وتشجع المؤمنين من المسلمين والمسيحيين على زيارة بيت المقدس وكنيسة القيامة في ظل الوضع الحالي هو أمر على غاية من الخطورة وبرز حوله خلاف وأثار نقاشا عاصفا بين مؤيد ورافض، وقد تعلل الفريق الأول بأهمية تنشيط الصلات بين القدس والعالم العربي والإسلامي وفك العزلة وإحياء الروابط الدينية التي تجمع السكان الأصليين بأهالي من عدة بلدان في العالم، أما حجة الرافضين فتدور حول إمكانية أن تشجع الزيارات على قبول الأمر الواقع والتعامل الإداري مع سلطات الاحتلال وهو ما يعني القبول بيهودية القدس والاعتراف بالكيان الغاصب.
من هذا المنطلق حدثت عدة أخطاء في التسيير الداخلي للشأن الفلسطيني أجّلت إعادة بعث "منظمة التحرير الفلسطينية" من جديد وحالت دون دخول جميع حساسيات فكرية فاعلة ومكونات اجتماعية حية إلى خيمتها الجامعة، كما تم إصدار عدة فتاوي متساهلة ومتسرعة تجيز حل الدولتين وتقود إلى الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود وتقول بأن زيارة المسلمين والأقباط للقدس لا تعتبر تطبيعا بل أمر مطلوب ومنطقي وترضي المستضيف والزائر وتحمل التخاذل العربي والانقسام الذاتي مسؤولية تردي أوضاع الشعب الفلسطيني وضياع القضية في الحقائب الديبلوماسية وعلى موائد المفاوضات وناقضتها فتاوي أخرى رافضة وممانعة تحرم التفاوض مع العدو وتمنع شرعيا الحج إلى ثاني القبلتين ما دام لا يزال في الأسر وتحت الاحتلال وتطالب بالتمسك بالحقوق وتحقيق المطالب الشعبية كاملة دون تنازل أو صلح.
هذه الأهمية التي يحتلها بيت المقدس في قلوب المسلمين تجيز شد الرحال إليه ويقر بذلك العديد من الأحاديث النبوية و"عن أبي ذر رضي الله عنه قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل: أمسجد رسول الله أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاةٌ في مسجدي أفضل من أربع صلواتٍ فيه، ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعا، قال: أو قال: خيرٌ له من الدنيا وما فيها ".
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى". علاوة على حديثه عن أن:"صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه"
غير أن الأسئلة التي ينبغي طرحها هي: أليس منع الناس من زيارة المساجد والمعابد هو تأكيد الخوف من رمزيتها وارتكاب المظالم والقصد بخرابها؟ ألا يمكن أن يكون قبول جزء من العقل السياسي الفلسطيني في الوقت الحاضر بحل الدولتين هو اعتراف صريح ومباشر بدولة إسرائيل وحق بني صهيون في أرض الميعاد وفي القدس كعاصمة لهذه الدولة؟ أليس الحل بدولة واحدة تكون علمانية وتضمن حرية المعتقد وحق إقامة الشعائر الدينية في كنف التسامح والسلم هو الأنسب والأقرب إلى انتظارات شعوب المنطقة؟ وماذا جنا الفلسطينيين المعدلين والعرب المعتدلين من جلوسهم على طاولة الحوار مع الجانب الإسرائيلي وبرعاية القوى الكبرى سوي مفاوضات تفضي إلى مفاوضات؟ وماهي الخطوات العملية والميدانية التي قامت بها السلطة الفلسطينية للحفاظ على الهوية العربية للمدينة وللدفاع عن المسجد الأقصى ضد عمليات الحفر والهدم التي يقوم بها اليمين الديني الإسرائيلي بتشجيع سياسي دولي غير معلن؟ ومتى نرى العرب والمسلمين وكل المنتسبين إلى الإنسانية التقدمية من عقول حرة وقلوب طيبة وسواعد عاملة متكتلين من أجل الدفاع عن القدس والمقدسات في فلسطين؟
كاتب فلسفي

(98)    هل أعجبتك المقالة (94)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي