أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عسكرة زائفة ومبالغ بها في فلسطين .. رشيد شاهين

لم تكن التجربة "الاحتلالية" لفلسطين هي التجربة الأولى أو الوحيدة في العالم، وهي بالضرورة لن تكون الأخيرة، برغم ان هذا الاحتلال قد يكون من أواخر "الاحتلالات" في العالم، وقد يكون هذا الاحتلال من نوعية مختلفة عن غيره من حيث طبيعته الاستيطانية والتصفوية والعنصرية، كما والدور الذي أنيط بدولة الاحتلال منذ فكرة إنشائها وإقامتها على الأرض الفلسطينية قبل ما يزيد على أل 60 عاما. هذا الحديث ليس بجديد، فهو قصة أصبحت معروفة للجميع.

ما أود طرقه هنا، هو هذا الذي يجري على هذه الأرض ما بين الفينة والفينة، وخاصة كلما استجد حدث بغض النظر عن أهميته، إلا انه يتسم ببروز أكثر كلما كان الحدث جادا او مهما، كما هو الحال هذه الأيام، حيث تم الإعلان عن العودة إلى مفاوضات مباشرة ما بين دولة الاحتلال والسلطة الفلسطينية.

فبينما كان الحدث في قمته في العاصمة الأمريكية حتى "دوت" الأعيرة النارية في منطقة الخليل لتقتل أربعة من الشذاذ وتجرح "زميلين" لهما في منطقة رام الله، وما ان تم الإعلان عن ذلك حتى خرج مستنكرا من خرج، فهدد بالويل والثبور، وخرج من أيد فأيد مهددا بعظائم الأمور، وان الأرض ستحترق بمن عليها والسماء ستمطر غضبا.. إلى نهاية "المنشور او البيان" الذي بتنا نحفظه عن ظهر قلب.

بات معروفا ان هنالك تنافسا محموما بين الفصائل الفلسطينية لتبني أي عمل كان ضد قوات الاحتلال والمستوطنين الذين يذرعون الأرض الفلسطينية جيئة وذهابا، بعد ان زرعوها بالمستوطنات خلال سنوات الاحتلال الطويلة، تلك المستوطنات التي تم بناؤها بأياد فلسطينية وفي أحيان ليست قليلة على أراض تم بيعها بطرق عدة - غش وخداع وتراض وتوافق- لهؤلاء المستوطنين. هذا التبني للعمليات من قبل الفصائل كان يسهل في كل الأحوال عمل أجهزة المخابرات المعادية، ويجعل إمكانيات القبض على المنفذين أسرع وأسهل.

في خضم المواجهات التي كانت تجري على الأرض الفلسطينية كانت الصور الاستعراضية لمقاتلين مدججين بالسلاح ملثمين بأقنعة قريبة من أقنعة رجال المافيا والعصابات التي دأبت وسائل الإعلام الغربية على إخراجها بأبشع صورها، فصار المقاتل الفلسطيني اقرب إلى رجل المافيا القاتل والمجرم في الذهنية الغربية، تلك الصور التي تختلف عن صورة المقاتل الفلسطيني الذي كان يعتمر الكوفية في غابات الأردن او جبال وأودية جنوب لبنان، بحيث صارت الصورة - للمقاتلين في الضفة والقطاع- تبعث الرعب في أوصال من يشاهدها، لأنها تشي بان هؤلاء ليس سوى مجرد قتلة او أفراد عصابات للقتل والإجرام، وأما الأسوأ في كل ذلك، هو عندما يتم حمل الأطفال على الأكتاف في الاستعراضات العسكرية وهم يداعبون او يعبثون او يحملون سلاح آبائهم او إخوانهم.

هذه الصور التي يعتقد البعض انها سوف تثير الرعب في نفوس جنود الاحتلال، إنما هي الصورة التي يريدها الإسرائيلي لتنتشر أوسع انتشار، من اجل ان يقول للعالم، هذا هو واقعنا - أي الواقع الإسرائيلي- نحن نعيش في غابة من السلاح، وبين مجموعات من القتلة والمجرمين، وعليه فان من غير الممكن ان نستسلم لهم، لأننا في اللحظة التي نفعل، سوف ينقضون علينا، ولن يترددوا في إبادتنا ورمينا في البحر. عندما يشاهد العالم تلك الصور، فانه لن يتردد في دعم دولة الاحتلال - المعرضة للإبادة وخطر الانتهاء- وهو بمثل تلك الصور، لن يؤيد القضية الفلسطينية، ولن يتعاطف معها، لانها تعني ان ليس في هذه الأرض سوى أدوات للقتل وهي فقط لقتل الإسرائيلي.

إسرائيل التي تعتبر من أقوى الدول، ليس فقط في المنطقة، لا بل وفي العالم، برغم كل ما لديها من غطرسة وتاريخ إجرامي، إلا انها لا تقوم بالاستعراض بالطريقة التي يقوم بها الفلسطيني او العربي بشكل عام، انها عقلية وثقافة المبالغة التي تتسم بها الذهنية العربية، ثقافة المبالغة حتى في اختيار الأسماء للبنات والأبناء، وإذا ما عدنا قليلا إلى الوراء، سوف نجد ان احد الأسباب التي أدت إلى احتلال العراق على سبيل المثال، هي تلك العقلية الميالة إلى المبالغة، التي انتهجها صدام حسين، ولا اعتقد بان أحدا قد نسي كيف خرج على شاشات التلفزة ليتحدث عما صنعه " الولد"، بينما إسرائيل وبرغم انها تمتلك مئات الرؤوس النووية، إلا انها تعتمد سياسة الغموض وعدم البوح في كل ما يتعلق بالموضوع النووي على سبيل المثال. ليس هذا فقط، حيث يمكن ملاحظة ان الدول العربية وفي كل عيد استقلال تقوم باستعراض ما لديها من أسلحة من كل الأصناف، وهي في حقيقة الأمر لا تستطيع ان تحمي عروشها، وثبت ذلك من خلال التجارب العملية التي عاشها كل واحد منا، وهي أسلحة أقصى ما يمكنها القيام به هو قتل أبناء الشعب وليس الدفاع عن الأرض والوطن.

خلال معظم سنوات الانتفاضة الثانية، كان العالم يرى المتحدثين بأسماء الفصائل او الأجنحة العسكرية يتناوبون متنافسين على الظهور بأقنعتهم على فضائيات العالم، هذا من يهدد وذاك من يتوعد وبأقسى العبارات التي توحي بان - الفرج او التحرير بات قاب قوسين او أدنى- وهي على أية حال لم تكن سوى تهديدات فارغة، والنتيجة كانت دوما ان إسرائيل تعربد وتقتل وتلاحق وتقتحم وتدمر دون إعلانات او مقدمات ودون ضجيج. ويمكن الحديث في هذا السياق عما يتم وصفه "بالصواريخ الفلسطينية" التي ربما قتلت من الفلسطينيين أكثر مما قتلت من الإسرائيليين، والسؤال هنا هل فعلا هي صواريخ، تلك الأنابيب المحشوة بالبارود، وهل يجوز ان يطلق عليها مثل هذا الاسم، وهل تتصف بالقدرات التفجيرية التي تتصف بها الصواريخ الحقيقية، ان الصاروخ في الذهنية الغربية يعني قدرة هائلة من القتل والتدمير، فهل تتصف هذه "الصواريخ" بمثل هذه الصفات؟ وهل يجوز الاستمرار باتباع هذه الطريقة من المبالغة في طل شيء؟.

خلال الأسبوع الماضي، وصلني عبر بريدي الاليكتروني، عشرات الرسائل التي تحمل صور عائلات وأصدقاء من قتلوا في عملية الخليل، وهم ينوحون ويبكون، طبعا، برغم انني افهم المغزى خلف ذلك، إلا انني اعتقد بان توزيع مثل هذه الصور هو مثل توزيع الحلوى بعد ان تم نسف برجي مركز التجارة العالمي في 11 أيلول 2001، والإعلان الصاخب عن الفرح في الشوارع الفلسطينية، إلا ان الفرق بين الإعلان عن ذاك الفرح، وعدم الإعلان عن الفرح العارم الذي ساد دولة الكيان وقياداتها وما قاله نتانياهو في أول رد فعل له على الحدث، كان شاسعا، حيث كان الفرح لديهم بصما ودون ضجيج، وهذا هو الفرق بين ردود الفعل، انه تم تصوير الشارع الفلسطيني على انه يعشق الدم، بينما في دولة الكيان شعب وقادة "يألمون" لمثل ذالك الحدث.

المعركة التي يخوضها الشعب الفلسطيني ليست محصورة في هذه الأرض، هذه الأرض جزء من كوكب، يمكن مشاهدة ما يجري فيها بسهولة ويسر وسرعة لم تكن موجودة قبل عشرات السنين، من يريد خوض الحرب او المعارك، عليه ان يأخذ كل العوامل بعين الاعتبار، بما في ذلك ردود أفعال العالم البعيد او القريب، ومخاطبته بالطريقة المناسبة، حتى دون ان يتحدث بكلمة واحدة، لان معركة الرأي العام هي جزء من المعركة او الحرب الكبيرة، الحرب قد تكون صورة لطفل او طير او حتى شجرة، وهناك الكثير من الصور التي يمكن من خلالها ان تستقطب الكثير من الناس في العالم، وهي أفضل من كل مظاهر العسكرة التي تم ترويجها خلال السنوات الماضية، مظاهر عسكرة غير صحيحة ولا تعكس واقع الحال، ولا يمكن من خلالها مقارنة ما تمتلكه كل الفصائل الفلسطينية بوحدة عسكرية احتلالية واحدة، هنالك طرق لمخاطبة العالم يمكن ان تفعل فعلا - سحريا- أفضل من كل الاستعراضات التي إساءات بتقديرنا إلى المقاومة ومفهومها بشكل عام، وأخيرا يمكن القول، انه حان الوقت لندرك لماذا قامت دولة الكيان بشحن حافلات تم تفجيرها في المدن الإسرائيلية إلى العالم "ليتفرج عليها".

4 أيلول 2010

(92)    هل أعجبتك المقالة (94)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي