أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

في السقيفة... علي سفر

في سقيفة المنزل وجد نفسه، مستجيباً لطلب زوجته المتكرر في أن يجلب بعض الأغراض القديمة التي تحتاجها..، الغبار الذي يغلف كل شيء بدا متسقاً مع الضوء الخافت، أبعد بعض الأشياء التي تسد الوصول إلى عمق المكان ووضعها في المدخل، فظهرت له كذكرياتٍ خالصةٍ ومنقاة، سرير طفلته الذي أمسى حطاماً، أعاده بضعة سنوات إلى الوراء، و دراجة طفله ذات الثلاثة دواليب نقلته إلى سنوات أخرى لاحقة، فكر لو يستريح من عناء ما يتذكره عبر البحث عن الأشياء  المطلوبة بسرعة، وخطا خطوتين إلى العمق، فوجد نفسه في مواجهة رفوف حديدة رتب عليها ذات يوم كومة هائلة من الكتب التي ضاقت بها مساحة الشقة الصغيرة، مد يده إلى الرف الأول، وتناول كتاباً سميكاً عرفه دون أن يمسح الغبار عنه، فتحه بحركة عفوية فرأى خطوطاًزرقاء تحت الأسطر المطبوعة، قلب الصفحات بشكل عشوائي فوجد أن كل صفحة من صفحات الكتاب قد تمت الخربشة عليها ووضعت الخطوط بين أسطرها، لقد كانت عادة قديمة تعلمهافي نهاية مراهقته حين بدأ يعاشر "رفاق السوء" الذين يعملون بالسياسة، وقد  تعلم منهم كيف يمكن للمرء أن يقرأ كتاباً و يفهمه و يلخصه و يبقيه حاضراً في رأسه حتى و إن بعد سنين طويلة ، عبر تحويل الكتاب المقروء إلى ساحة خربشات و تعليقات يضعها القارئ على الهامش و ضمن متن النص المقروء..

تلك الطريقة لم تعد ذات جدوى، و ربما لم تكن أصلاً، لأنه و كما جرت أموره نسي كل شيء بمجرد أن ألقى بهذه الكتب في عتمتها هنا، بعد أن كان قد قرر التوقف عن تكرار الجمل التي حفظها من هذه الكتب، و التي كان يعيدها في كل نقاش يخوضه مع رفاق السوء ومع غيرهم، لقد وجد نفسه قد أمست ببغاءً دون أن يدري و عرف بعد أن حدق في المرآة أنه في طور التحول إلى نسخة مكررة و مشوهة عن غيره، فقرر ان يتمرد على تفاصيله، فحلق ذقنه و قص شعره الطويل، و تخلى عن ألوان ملابسه الداكنة، و أعاد طلاء حجرات المنزل بألوانٍ أكثر بهجةٍ بعد أن نزع الصور الثورية عنها..

حدث هذا قبل عشرين عاماًمن الآن، آنذاك كان كل شيءٍ يتغير و يتبدل وقد قاطعه الجميع بعد أن أحسوا أنه قد بدأ في الإختلاف، فركب رأسه و"طحش" في معاندة طريقتهم في التفكير، فحمل كل كتب الأفكار إلى السقيفة ووضعها هناك، منتظراً أن ينضج قراره، فإن وجد أنها غيرذات جدوى رماها و تخلص منها، و إن عاد إلى صوابه ووجد أنها مهمة في حياته وفكره،أعادها إلى المكتبة في الأسفل، ولكنه مع مرور الوقت نسيها..بعد أن ذهب بعيداً  بأفكاره نحو الأدب و الثقافة، اللذين قاداه إلى الكتابة و إلى تحري الفكر عبر مسارب مختلفة عن السياسة و العمل فيها، ورغم أنه لم بحاجة للأمر فإنه سرعان ما وجد لنفسه رفاق سوء آخرين كانوا أكثر لطفاً من سابقيهم و أقل تشدداً و حرصاً على حماية الأفكار من النقد و النقاش، و مع مرور الوقت كانت مكتبته تتسع أمام عينيه دون أن تفسح المجال لتذكر الجزء المرمي في ظلام السقيفة..والذي يقف أمامه الآن..!

صفوف الكتب أمام عينيه جعلته ينسى ما جاء ليبحث عنه هاهنا، ودون أن يستطيع وقف سيل الذكريات المغرقة وجد نفسه محمولاً مع أمواجها التي تدفعه بشكل عكسي نحو الخلف، فكر: كيف يمكن للعقل أنيحدد اتجاه الذكريات طالما أنها تولد فيه و تنشط داخله و تموت في مقبرته..؟ هل كانت هذه الذكريات واقعاً حقيقياً عاشه ذات يومٍ أم أنها مجرد خيالاتٍ خلقتها العتمة المكئبة للسقيفة، حيث ترمى الأشياء الفائضة عن الحاجة و التي تتحول مع الوقت إلى تفاصيل منسية..؟ الكتب ليست وهماً و الخطوط الزرقاء في صفحاتها أوضح من أن تكون خطوطاً عالقةً بعينيه إثر تحرك الضوء أمام الحدقتين..!

أحس بأنه قد غرق تماماً و أن أحداً لن ينتشله من العمق الذي استقر فيه..فاستسلم تماماً و بدأ يستعيد كل مشاهد حياته، وكأنه يحتضر..!

صوت زوجته التي نادته كثيراً، كان أخر ما سمعه قبل أن يغفو في وسط السقيفة وكأنه كتاب سقط من على المكتبة ذات يومٍ فأمسى رهين العتمة و الغبار..

[email protected]



(106)    هل أعجبتك المقالة (93)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي