أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

بهاء الدين قراقوش وجنايته غلى الأدب ... محمد عبده العباسي

فى العام 564هـ كانت شمس الدولة الفاطمية قد أذنت بالأفول ، وآلت الأمور فيها لصلاح الدين الذى كان على رأس وزارتها ..
هنا سنحت الفرصة ، فرصة الإنقضاض على العرش فى البلاد المصرى ، وسعى الكثيرين للتحذير من مغبة صعود صلاح الدين إلى سدة الحكم ، وتراقصت الأحلام فى رأس عبد خصى يدعى " المؤتمن" حاول قدر جهده أن يرث هذا العالم الثرى وسعى للإستيلاء على ذخائر تلك الخزائن بما حوت والقصور بما ضمت كل ماهو غالٍ وثمين ليستطيع تحقيق الحلم ببناء جيش قوى يقوم بالإنفاق عليه من تلك الكنوز ..
فطن القاضى الفاضل إلى مايدور فى خلد هذا العبد ، وشاركه شمس الدولة بن أيوب ـ الأخ الأكبر لصلاح الدين ـ بحنكة ودربة فقطعا السبيل أمام المؤتمن ليرتد على أعقابه وليولى فراراً من أمام أناس تغدوا به قبل أن يتعشى هم بهم..
ولولا ذلك لأستطاع هذا العبد اسقاط صلاح الدين ويرتقى موضعه .
وفى المقابل شاركهم صلاح الدين الأمر ، وقام على الفور بتعيين صاحبه بهاء الدين قراقوش متولياً على القصر فلم يتمكن المؤتمن ولا أى أحد من أتباعه تحقيق أى غاية .
وبموت الخليفة الفاطمى انقطعت الخطبة بإسمه وذكر اسم الخليفة العباسى وأصدر صلاح الدين أوامره لقراقوش بالعناية بالقصر الفاطمى وحذره بأن يعزل الرجال عن النساء لئلا يتكاثروا ويمتد ظلهم فيسعوا إلى استعادة ملكهم ، فأمر قراقوش بنقلهم إلى قصر دار برجوان.
وجاءت الفرصة سخية لقراقوش فراح يصول ويجول فى ساحة القصر الفاطمى فرأى بعينيه عالماً زاخراً بما لا يمكن أن يدور بخلد إنسان من ملابس بأنواعها المختلفة وجواهر تذهب بالبصر ومنسوجات لا مثيل لها وتماثيل صنعت بمهارة فائقة من البلور غير كثير من التحف النادرة على كل شكل ولون ، ناهيك عن كؤوس من حجر اليشب إذا وضع السم فى شربها تغير لون الكأس وبانت حقيقة ما فيه .
ثم دارت رأسه حين دخل إلى مكتبة القصر المنيف ، مكتبة قلما رأى مثيلاً لها فى أى مكان بالعالم ..
ولما كان معروفاً عن بهاء الدين الأسدى ـ نسبة إلى سيده أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين الأيوبى الذى اشتراه ورباه فى كنفه ـ أنه جندى جرئ مقدام إلا أنه كان يفتقد الدراية بعالم الأدب أو عرف معناه ، فقد استغل ذلك بعض المقربين منه وصبوا فى أذنيه الكثير مقدمات مغرضة من الوشايات بأن المكتبة فى حاجة للتهوية لئلا تقضى عليها العتة فتتلفها وتأتى على مافيها .
وبدأت يد الإثم تعيث فساداً بالمكتبة بعد أن آل أمرها إلى مجموعة من التجار استطاعوا نهبها نهباً منظماً وبلصوصية فاعلة ..
كانت المكتبة مرتبة ترتيباً صحيحاً وتم فهرستها بشكل علمى وفق قواعد الفهارس العربية إلا أن اللصوص وما أدراك مااللصوص فلهم من الحيل ما لا يخطر على بال أو يخطر على خاطر بشر حتى لو أرتدوا حلل التجار ، فقاموا بلعبة خطرة لتحقيق مايدور فى رؤوسهم بأن قلبوا المكتبة رأساً على عقب فاختلطت كتب الأدب بكتب السحر والنجوم والشعوذة مع كتب الشرع ، وكتب المنطق بكتب الطب والهندسة والكتب المشهورة بالكتب المجهولة.
ومما يورده المؤرخون فى هذا الصدد التأكيد على هناك من الكتب مؤلفات تحويها الخزانة يشتمل كل كتاب على خمسين أو ستين جزءاً مجلداً فإذا فقد منها جزء لا يمكن تعويضه بحال مرة أخرى .
استطاع اللصوص بمهارة وحذق والدلالون بقدرة فائقة خلط الأوراق وإدعاء فقدان أجزاء من هذه المجلدات ..
وحُملت أطنان من الكتب الى الأسواق لتباع بأبخس الأثمان بعد أن حصلوا على مرادهم وغايتهم من كل هذه الكتب وباعوها بأثمان باهظة.
كل هذا حدث بعد أن لعبوا برأس الجندى الجرئ الشديد المراس الذى لا تربطه بالكتب أى علاقة من قريب أو من بعيد ، وبعد أن أوغروا صدره بأن هذه الكتب تدعو إلى التطرف والتشيع بينما صلاح الدين هو الذى سعى للقضاء على المذهب الشيعى الذى أتت به الدولة الفاطمية التى سادت ثم بادت .
عمل قراقوش بكل جهد لتنفيذ أوامر سيده صلاح الدين وجعل يومان فى الأسبوع يتم فيهما بيع هذه الكتب ، واستمر البيع وفقاً لذلك حتى استغرق مدة عشر سنوات بيعت فيها ذخائر وأمهات الكتب وكلل الجهد الذى بذله قراقوش بالنجاح فنال رضا سيده إلا أنه حافظ على نفائس القصر وبذل كل العناية ليصونها من الضياع والفقد.
وقد استطاع القاضى الفاضل أحد الأضلاع المساعدة لتعضيد مُلك بنى أيوب فى مصر إلى جانب إخلاص الجندى الباسل بهاء الدين قراقوش وعيسى الهكارى الفقيه العظيم استطاع القاضى والهكارى فى الظفر بنصيب الأسد من هذه الثروة التى لا تقدر بثمن واحتفظا بآلاف من هذه الكتب قبل أن تقع فى براثن التجار ، وأسس القاضى الفاضل مدرسة فخمة سماها بإسمه وخدم بها المذهب السنى الذى أسس له صلاح الدين فى مصر وسعى لنشره وقضى على جميع المذاهب التى كانت سائدة فى ذلك الوقت لئلا تناهضه .
وقد كان من أسباب التفريط فى خزانة الكتب الفاطمية فى الأساس يرجع إلى سببين أساسيين أولهما أن قراتقوش ليس له دراية بالأدب أو بعالم الكتب فهو طيلة حياته لم يخرج عن كونه جندى غارق حتى أذنيه فى دنيا العسكرية ، وثانيهما أن صلاح الدين نفسه كان يخشى من تداول هذه الكتب بين العامة فأساء الظن بها ولم يهتم بحفظها قدر اهتمامه بمسألة بيعها والحصول على أثمانها.
ومهما يكن من أمر بهاء الدين قراقوش فلا ننسى أبداً أنه كان رجلاً جاداً فى أى عمل أسند إليه رغم ماكتبه عنه المؤرخ ابن مماتى فى كتابه " الفاشوش فى حكم قراقوش"..

(84)    هل أعجبتك المقالة (98)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي