فارس آخر من فرسان الحرف السوري المتنور يترجل من دون موعد.
أتى الخبر صاعقاً كطعنة غدر في يوم مسود كئيب. لحظات مؤلمة مرت بتثاقل وكمد بطيء. لحظات مفعمة بالتأمل والأسى والأسف والعجز وعدم التصديق. كيف يقهرنا كل مرة هذا الموت العجيب؟ كيف يخطف منا الأحبة، والأصدقاء، والآباء والأمهات، والغوالي وأعز الحبايب والرفاق، هكذا بكل مجانية واستهتار ولا مبالاة ولا استئذان؟ وكيف يخطف بكل استخفاف تلك الأرواح التي تزخر بالحيوية والحياة والعطاء من على لوحة الكون ومسرحها، هكذا وبلمح البصر ويحيلها إلى مجرد ذكرى وجسد هامد صامت أصم يرقد في عالم الأسى واللوعة والنسيان؟
هكذا هو فراق سريع بلا أي موعد وترتيبات، وأعذرني يا صديقي العزيز نور الدين، كنا ننتظر منك وداعاً حاراً يليق بحجم تلك الصداقة والمودة والذكريات. فكيف، ولماذا تخذلنا، دائماً، الوعود والآمال والأمنيات؟ وكيف غفت مدينة حمص الحزينة في ذاك المساء؟ولماذا تركتنا هكذا، يا أبا يزن، ورحلت دونما تحية ولا استئذان؟ كان بود الأحبة والرفاق، أن يلقوا عليك تحية الوداع ويلوحوا بأيديهم لك وأنت تغادرنا وتترجل كفارس مقدام من زمن الرجولة والإباء. كان بودنا أن نرفع كأساً أخرى ونحن نحتفي، كما العادة، ونمارس بنفس الحرارة طقوس الوداع واللقاء. كان بود يزن أن يطبع على جبينك الأشم قبلة المساء قبل أن يأوي لفراشه ويستلقي استعداداً لملاقاة الصباحات المشرقة ومداعبة الأحلام. وكان بود "سلمى" أن تحادثك بلغة العيون الحبيبة قبل أن تسدل الستارة الأخيرة على قصة الحب العظيمة التي جمعت بين هذه الأرواح. إنها "موتة" لا تليق بالثوار، والكتاب، والشعراء والمفكرين المشاغبين المشاكسين فقد أبت الأقدار التعيسة إلا أن نموت هكذا في المنافي البعيدة، وعلى دروب الغرباء، وأرصفة الاستجداء، هكذا وحيدين وحزانى ومطاردين كنوارس غجرية تهيم في الفضاء. وهكذا تكتب الأقدار الظالمة خواتمها وقفلاتها للرجال الطيبين الصالحين بألا تدخل بوابات الوطن إلا محملة بالنعوش والتوبيت، ومضرجة بالدماء، وألا تغتسل أبداً كالشهداء والقديسين الطهراء.
مأساة كبيرة لفحت ذاك العش الصغير، والبيت الهانئ المسالم الوديع. هكذا تطبش يد المنون الظالمة، ودونما رحمة أو حياء، بنور الدين ونصفه الآخر الجميل، وتتركهم في حال من العناق الأبدي الطويل الموشح بالدمعة والسواد، معاً وإلى الأبد إلى عالم مجهول غريب يفيض بالغموض والسحر والحكايات. وتبقى عينا يزن الصغير على موعد مع القدر تترقب إطلالة الوالدين من على سفوح زاهية خضراء وهم يلوحان بالهدايا والحلوى والبسمة الصادقة التي غابت للأبد وزرعت مكانها الأسى والشوك والغصة والفراق.
كيف مر ذاك الزمن السريع ما بين اجتماعنا، يا أبا يزن، على مائدة عامرة في يوم ممطر في ذاك الشتاء، ولحظة هذا النبأ الموجع الحزين؟ وكيف لي أن أستجمع دفء تلك الهمسات، والبسمات، والتلميحات، والكلمات وكل تلك الحوارات التي طارت وضاعت في الفضاء؟ وكيف لي أن أحييك بعد الآن وأتلقى كتاباتك الرقيقة، وأحس بتحيتك الدافئة فيها، والتي كانت تجد طريقها للنشر سريعاً في مرآتنا السورية التي جمعتنا ذات يوم ومن غير ميعاد؟ هل حقاً لم يتبق لديك أي وقت لتهبنا إياه لتكتب به هذه المرة آخر المراثي والمواويل الحزينة والأشعار؟ وهل، حقاً، لن نلتقي بعد اليوم، ولن نراك بإطلالتك الباسمة على تلك الصفحات الأثيرة التي كانت الأداة الوحيدة للتواصل والالتقاء؟ وهل نفذت من جعبتك، حقاً، ولم يبق لديك حتى ولو مجرد بضعة ثوان، ولحظات لتواصل واجتماع؟
لا أجد فيما أقوله فيك سوى أنك كنت نعم الصديق، ونعم الرفيق المتنور الذي يزخر بفكر متحرر من تراث العبودية والاسترقاق، ونعم الأخ، ونعم الأب، ونعم الثائر المتمرد على قيم الرداءة والاستكانة والاستبداد، ونعم الزوج، ونعم الرجل، ونعم الإنسان، ولم أر فيك ما يعيب على الإطلاق.
قالوا الموت حق، ولكن أي حق في رحيل من هم بالنسبة لنا أمل، وعطاء، وبركة، وحياة؟
وداعاً أيها الصديق العزيز نور الدين بدران، وما أصعبه من وداع حين يكون بلا لقاء.
• قضى الزميل والصديق العزيز الكاتب والشاعر السوري نور الدين بدران وذلك يوم الأربعاء الموافق 3/10/2007، مع زوجته الفاضلة الدكتورة المرحومة سلمى دليلة، شقيقة الدكتور عارف دليلة، في حادث سير أليم في مدينة الزرقاء الأردنية وذلك أثناء عودتهما في طريقهما من المملكة العربية السعودية حيث كانا يقيمان هناك. وهو واحد من الكتاب الدائمين والبارزين في موقع الحوار المتمدن.
• يزن هو الولد الوحيد للفقيد، وقد تصادف وجوده في سوريا بانتظار والديه لقضاء عطلة عيد الفطر، وهو طالب يدرس الهندسة المعلوماتية في إحدى الجامعات اليابانية.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية