حفلت كتب الأدب العربي على مدى تاريخه برصد كل ظواهر الحياة من حولنا ، فلا تكاد أن تخلو رفوف مكتباتنا من كتب تخصصت فى أى من هذه الطواهر ..
ولعل من الظواهر التى نالت الكثير من الإهتمام ظاهرة التطفيل والطفيليين التى دعت بسبب أنها عادة ذميمة ويمارسها أناس يستحقون ما ينالهم من إهانة بسبب مواقفهم المزرية ، دعت إلى اهتمام كثير من الأدباء على كافة مستوياتهم وأدواتهم إلى الوقوف بحزم فى وجوه أصحابها وفضحهم والنيل منهم بعد سبر أغوارهم والتعرف على الأسباب والدوافع التى ساعدتهم على ذلك النهج ، وسرد أسماء من اشتهروا بها فى واقعنا العربى .
وخرج من بين ظهرانينا أناس بذلوا كل ثمين وغالٍ من جهد ووقت لإماطة اللثام عن شخصياتهم
ومن هذه الكتب كتاب التطفيل وحكايات الطفيليين وأخبارهم ونوادر كلامهم وأشعارهم ـ تأليف أبى بكر أحمد بن على بن ثابت الخطيب البغدادى (392ـ 463هـ / 1002 ـ 1071م ).*
وهناك الكثير من الكتب التى كانت بالمرصاد لمثل هذه الظاهرة ووقفت على كل مايتعلق بها بل وقامت بتحليلها ..
فالطفيلى شخصية مذمومة لأنه يمارس فعلاً يرفضه الناس على كافة الأصعدة ومهما بلغت بهم درجة الجود والكرم وارتفع شأنهم ، ولا تجد تلك الشخصية موضع قدم لنفسها ولا رحابة صدر تتسع لها ولا وقعاً طيباً لدى الناس لما تتركه من أثر سيئ فى نفوسهم .
وقد تركت لنا كتب الأدب العربى الكثير من القصص والمواقف التى تشهد وتحلل وترصد وتسجل أسماء هؤلاء الأشخاص الذين أثاروا حالة من الإشمئزاز والنفور عندهم .
فمن يكون هذا الطفيلى ؟
يُعرف الطفيلى بأنه الشخص الداخل على القوم من غير أن يُدعى .
وكلمة طفيلى أخذت من الطِّفَـل ، والطفل هو اقبال الليل على النهار بظلمته ، وأرادوا بذلك أن أمر هذا الشخص يُظلم على القوم فلا يدرون من دعاه ، ولا من أين أقبل عليهم أو دخل.
قال الأصمعى فى تعريفه أيضاً ، قولهم طُفيلى للذى يدخل على وليمة لم يُدع إليها ..
وينسبه الأصمعى إلى شخص اسمه طُفيل ، وطُفيل هذا رجل من أهل الكوفة من بنى غطفان كان يإتى إلى الولائم من غير أن يُدعى إليها ، فكان يقال طفيل الأعراس والعرائس.
والعرب تسمى الطفيلى بأسماء كثيرة مثل :
الرائش والوارش ، ومن أسمائه التى وردت فى لسان العرب لإبن منظور الطفيليل والراشف والأرشم والزلال والقسقاس والنتيل والدامر والدامن والزامج واللغمط واللغموط والمكر.
وقد وصفه العرب بأنه الشخص الذى يدخل على القوم فى شرابهم ولم يُدع إليه : الواغل.
وقال أبو عبيدة : كان رجل من بنى هلال ينزل الحفر الذى يقال له اليوم : حفر أبى موسى " 1"
الذى كان أول من حفر فيه ركية فُنسب الحفر إليه ـ وكان هذا المنزل منزلاً من منازل العرب ـ وكان رجل من بنى هلال ينزله يقال له طفيل بن زلال ، فكان إذا سمع بقوم عندهم دعوة أتاهم ، فأكل من طعامهم ، فسُمى الطفيلى طفيلياً به .
وقال الأصمعى : أول من طَفّلَ هو الطفيل بن زلال ، وأول من زل : أبوه ، فسمى التطفيل به ، والزّل" 2"بأبيه .
وقال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه :أغُد عالماً أو متعلماً ، ولا تُغد إمعة بين ذلك .
وقال أيضاً : كما ندعو الإمعة فى الجاهلية الرجل الذى يُدعى إلى الطعام فيذهب بالآخر معه لم يُدع.
وقال أيضاً : كانوا يعدون الإمعة فى الجاهلية الذى يُدعى إلى الطعام فيذهب معه بآخر ، وهو المُحقب دينه الرجال.
وقال ابن قتيبة : الضّيفن : الذى يجئ مع الضيف ولم يُدع .
وقد قدم أحد الحكماء النُصح لإبنه فقال :
ـ من تعرض لخصال تقصر به فلا يلومن إلا نفسه: من حدّث من لا يستمع لحديثه ، ومن دخل بين اثنين لم يدخلاه ، ومن أتى الدعوة ولم يُدع لها ، والجالس مجلساً لا يستحقه ، والطالب الفضل من اللئام ، والمتعرض للخير من عدوه ، والمتحمق بالدّالة ، والمتكلف مالا يعنيه .
أما المُزنى فقال : أحق الناس بلطمة من إذا دُعى إلى طعام يذهب معه بآخر ، وأحق الناس بلطمتين رجل دخل على قوم فقالوا له : اجلس هاهنا ، قال : لا بل أجلس هاهنا ، وأحق الناس بثلاث لطمات رجل دخل على قوم فقدموا له الطعام ، فقال لرب البيت اجلس معنا .
أما بكر بن عبد الله فقال : إن أحق الناس بلطمة من أتى طعاماً لم يُدع إليه، وإن أحق الناس بلطمتين من يقول له صاحب البيت اجلس هاهنا ، فيقول بل أجلس هاهنا ، وإن أحق الناس بثلاث لطمات من دُعى إلى طعام ، فقال لصاحب البيت : ادع لنا ربة البيت تأكل معنا .
والضيف إذا أطال المثوى عند مضيفه حتى يُخرجه ويشق عليه ، كان بمنزلة المتطفل . وقد ورد فى الأثر النهى عن ذلك .
ويحكى أن واحداً من أهل البصرة نزل على مدينى "4" وكان صديقاً له فألح الرجل على المدينى بطول المقام ، وضاق المدينى بهذا الأمر فقال لزوجته :
ـ إذا كان يوم غد فإنى أقول لضيفنا : كم ذراعاً تقفز؟
فأقفز أنا من العتبة إلى باب الدار ، فإذا قفز الضيف أغلقى الباب خلفه.
فلما كانوا من الغد ، قال المدينى لضيفه :
ـ كيف قفزك يا أبا فلان ؟
قال : جيد.
قال ، فوثب المدينى من داخل منزله إلى خارج الدار أذرعاً ، ثم قال لضيفه : ثب "5" . فوثب الضيف إلى داخل الدار ذراعين ، وقال:
ـ ذراعين إلى داخل خير من أربعة إلى الخارج.
وقال آدم الطويل : دخل حانوتى على رجل يأكل شيئاً من الطعام ، فتقدم سائل فقلت : ما أكثر ترددك إلىّ ؟
قال : الغريب الذى فى الحانوتى.
ويروى الجاحظ قصة يقول فيها :
ـ كان عندنا فتى يعشق جارية ، فكتب إليها يوماً :
ـ جُعلت فداك ، إبعثى إلىّ بشئ من الخبيص " 6"
والخُشكنانج "7" ، فإن عندى قوم من القراء .
فبعثت إليه ، فلما كان اليوم الثانى كتب لها :
ـ جُعلت فداك ، ابعثى لى لشئ من النبيذ ومايُصلحه فإن عندى قوماً من القيان .
فاشتد غيظها وكتبت له :
ـ أبقاك الله وحفظك ، رأينا الحب يكون فى القلب ، فإذا فشا دّب فى المفاصل ، وحُبك مايزول من المعدة ، وأراك طفيلياً تتأكل بالعشق .
وقال محمد بن سعد ، قلت لطفيلى مرة :
ـ ويلك ! تأكل حراماً ؟
قال : ما أكلت قط إلا حلالاً ..
قلت : وكيف ذاك ؟
قال : لأنى إذا دخلت داراً لقوم قصدتُ باب النساء ،فيقولون : هاهنا ، هاهنا ..
فقولهم هاهنا هو دعوة ، فما آكل إلا حلالاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* التطفيل وحكايات الطفيليين وأخبارهم ونوادر كلامهم وأشعارهم ـ تأليف أبى بكر أحمد بن على بن ثابت الخطيب البغدادى (392ـ 463هـ / 1002 ـ 1071م )
عناية بسام عبد الوهاب الجابى ـ دار ابن حزم للطباعة والنشر ـ بيروت ، لبنان .
ط 1 ، 1420هـ / 1999م.
--------------
1ـ حفر أبى موسى : هى ركايا أحفرها أبو موسى الأشعرى على جادة البصرة إلى مكة ، وماؤها عذب ، والركية هى البئر والجمع ركايا.
2ـ الزّل : هو الطعام من الولائم ونحوها .
3ـ المُحقب : هو تامتتبع دينه آراء الرجال من غير نظر فى دليل ولا طلب لحجة ، وهو مأخوذ من الحقيبة التى تُعلق على الفرس ، فكذلك يُعلق أمر دينه على غيره تقليداً لا اجتهاداً .
4ـ المدينى : من أهل المدينة.
5ـ ثب : فعل أمر من كلمة وثب .
6ـ الخبيص : هو خالص دقيق الحنطة إذا عُجن بالسمن وبُسط ومُلئ بالسكر واللوز أو الفستق وماء الورد وجُمع وخُبز,
7ـ الخُشكنانج : كلمة فارسية مركبة من مقطعين ، الأول خُشك وتعنى الجاف والميبس ، والثانى نان ويعنى الخبز ، فيكون المعنى هو نوع من الحلوى تسمى الآن بيتى فور Petit four .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عضو اتحاد كتاب مصر
بورسعيد ـ مصر
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية