في عصر الاباء كانت عباره ( فلان تربيه شوارع ) اشاره الى الذم والتحقير غير ان هذه الشتيمه قد تغيرت فقد بدأت العطله الصيفية التي تمتد إلى ما بعد شهر رمضان المبارك, هذه العطلة بالنسبة للبعض فرصة لاكتشاف أنفسهم أولا، واكتشاف أطفالهم وطاقاتهم ثانيا, فيتم إلحاق الأطفال بدورات رياضية وتعليمية مختلفة لإكسابهم مهارات تساعدهم مستقبلا، وقد يتم إلحاق الأولاد الأكبر عمرًا بالعمل الافتراضي لدى بعض المؤسسات والمصانع لتكوين شخصيتهم المهنية مستقبلاً. غير أن الخطورة الكاملة تكمن في الأطفال الصغار الذين يبقون في البيوت، فيكون المهرب الوحيد لهم هو التلفاز الذي اقتحم البيوت ببرامجه دون استئذان، وشارك الأسرة في خصوصياتها وفي أدق علاقاتها الاجتماعية, فأصبح التلفاز شريكا مهما في تربية النشء، وتحول إلى جليسة للأطفال الذين يقضون ساعات وساعات في التنقل بين القنوات الفضائية، ومشاهدة البرامج؛ الغث والسمين منها.
في جولة صغيرة على المحطات الفضائية العربية نكتشف أن هناك أكثر من 8 محطة فضائية متخصصة للأطفال، ناهيك عن أن هناك فترة يومية على كل المحطات العربية مخصصة للأطفال واليافعين.
شاء الله أن أمضي عطلتي هذه السنة أتابع مع أطفالي ما تقدمه تلك المحطات التي يقال إنها مخصصة للأطفال، وأدهشني تعلق الصغار بقناة اسمها "..." وقناة أخرى تسمى "..." وهي المحطات الأكثر متابعة عند أغلب الأطفال ، فرأيت عيون الأطفال وهي تتفرس في الشاشة وتلاحق حركات شخصياتها وهم يؤدون أغانيهم وأناشيدهم. فالقناة لا تقدم أي نوع من البرامج أو المسلسلات، فقط أغان وأناشيد يتم إعادتها عشرات المرات، حتى حفظها الأطفال عن ظهر قلب. القائمون على المحطة يعتقدون أنهم يقدمون وجبة تربوية هادفة عبر أغانيهم التي يكثر فيها الابتذال والإسفاف, ولاتحترم عقل الطفل، ولا تخاطبه برقي يرتفع به، وينتفع منه.
أذكر قبل شهور أني شاهدت على قناة "اقرأ" حلقة من برنامج (خواطر) عن أطفال اليابان، وكيفية تربيتهم، وثارت دهشتي ودهشة المشاهدين عندما سأل المذيع الطفل الصغير: لماذا لا تلقى بالنفايات على الأرض؟ فشرح الطفل الصغير له نظرية (تدوير المواد للمحافظة على البيئة) والطفل لم يكن معجزة، فالأطفال الآخرون لم يقلوا عنه في مستواهم العقلي والفكري, فهل ذلك الطفل الياباني سوف يبقى كما هو لو أنه بدأ بمتابعة محطات الأطفال في بلادنا -لا سمح الله- أم أنه سوف يبدأ بالغنج والمياصة والتراقص والتمايل لسماع موسيقى أغنية (هيك بيطيروا العصافير).
الدراسات التربوية تشير إلى أن الأطفال الذين يكثرون من مشاهدة ما هب ودب من برامج القنوات الفضائية هم أقل علما وإبداعا وابتكارا وخيالا من الأطفال الذين يشاهدون برامج منتقاة، ويمارسون نشاطات أخرى لتمضية أوقات فراغهم.
ما الذي تقدمه لأطفالنا تلك المحطات؟ وهل لتلك المحطات أهداف تربوية واضحة غير جني الأرباح, هل تستطيع محطة من تلك المحطات أن تعلن لنا أسماء الهيئة التربوية والطبابة النفسية التي تشرف على إعداد تلك الأغاني أو البرامج، رغم معرفتي المسبقة أن تلك المحطات تعيش وضعا انفلاتيا، حيث يعمل صاحب المحطة مخرجا وممثلا ومؤلفا وكاتبا ومصورا، وما دون ذلك, فلا يعني أبدا أنه إذا تمت إذاعة أغنية عن الكذب أو السرقة أن المحطة كلها تربوية وتصلح للأطفال... فالأمر لا يعدو كونه نوعا من خلط السم بالدسم، والمشروع كله تجاري يحقق الملايين, فحبة الحلوى أو العلك عندما تحمل اسم إحدى شخصيات المحطة التلفزيونية يصبح سعرها أغلى بعشرة مرات, والحقيبة المدرسية صنع الصين يحلق سعرها في السماء إذا تمت طباعة صورة إحدى الشخصيات التلفزيونية على تلك الحقيبة, نعم، إن تلك المحطات هي مشاريع تجارية، ولكن ليس بهذه الطريقة التي يتم فيها بيع نفس دمية الأطفال صينية الصنع بدينارين ونصف، فيصبح سعرها ثلاثة عشره دينارا كونها تحمل اسما يتردد في تلك المحطة, والأمر يسري على الشيبس والعصير والملابس والأثاث والمناشف، وحتى على الأحذية، فمن النادر أن ترى إعلانات تروج لأطعمة صحية وذات قيمة غذائية عالية، فمعظم الإعلانات تروج لحياة استهلاكية ليس إلاّ, هل من المنطق أن يكون سعر مجلة (ماجد) للأطفال أو مجلة (العربي الصغير) صاحبة الرسالة التربوية، والتاريخ العريق في تربية الأطفال بنصف دينار، ويكون سعر مجلة أطفال -أبسط ما يقال عنها إنها تافهة- بثلاثة دنانير كونها من مطبوعات محطة الأطفال تلك؟؟
والأمر لا يختلف أيضا في محطات الأطفال الأخرى التي تقدم لنا برامج ومسلسلات أجنبية مدبلجة دون النظر إلى ماهيتها ومدى ملاءمتها لأخلاقياتنا وعاداتنا ومبادئنا، أو تقدم لنا تربية غير إسلامية، أو نابعة من مفاهيم إسلامية مغلوطة.
وباختصار شديد، إن قنوات الأطفال الفضائية نعمة ونقمة، فهي ليست بالشر المطلق، ولا بالخير المطلق، فلا يمكن هنا إنكار دور قنوات الأطفال الفضائية الجادة والرصينة -إن توفرت- في التطوير المعرفي للأطفال، وتعليمهم، وتوسيع مداركهم عبر تقديم معلومات جاهزة ومحددة في إطار من الصور والحركات والألوان والموسيقى المرافقة.
إذن، المطلوب الرقابة على كل ما يتلقاه الطفل، وتوفير البدائل المكملة للعملية التربوية، التي تنمي الإبداع، مثل القراءة والرسم والرياضة واللعب الإبداعي؛ لأنه مهما كانت كمية ونوعية المعرفة المكتسبة من تلك القنوات الفضائية تظل قاصرة عن توفير التنمية العقلية والنفسية والاجتماعية التي يحتاجها الطفل في مختلف مراحل تطوره.
ويمكن لأصحاب القنوات الفضائية أن يجعلوا من مشاهدة تلك المحطات عملية تربوية مكملة لدور المدرسة والبيت والمجتمع بأكمله، إن راعوا الله فيما يقدمون لأطفالنا، وتحملوا مسؤولياتهم، ولكن هيهات أن يفعلوا ذلك! و بالمناسبة هل عباره ( فلان تربيه فضائية ) تعني الشتيمه عند البعض مثلا ؟
تربيه فضائية .. ايوب الغنيمات
كاتب اردني
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية