أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

"نعيمة الشاكري" ... علا البوش

"نعيمة الشاكري" أتذكر هذا الإسم جيدا.. ذلك الوعد اليتيم.. عشر سنوات مفعمة بالأحداث والمواقف المتنوعة والمهمة كان ينبغي أن تنسيني فتاة لم ألتق بها سوى مرات معدودة, إلا أنها لم تغب عن ذاكرتي يوما..

كانت صورتها تلاحقني كالعقاب, تشعرني بالإثم والتأنيب الدائم بوعد خلفته مع نعيمة..

إلتقيتها في مستشفى, لا أذكر جيدا سبب تواجدها المستمر هناك, خلال أيام أمضيتها مع والدتي التي تعرضت لعملية قيصرية حينذاك..

كانت نعيمة بهية الطلعة, دافئة الملامح ونقية الصوت. ترتدي اللون الأسود باستمرار..

قرأت حزن نعيمة في لقائنا الأول.. نظراتها المتوسّلة بصمت.. لكأن عينيها الواسعتين ترسم الأبدية في لحظة واحدة.. وصوتها المتكسّر حكاية معاناة تتأرجح على عقارب الزمن..

دخلت كافيتيريا المستشفى أشتري العصير الطازج, لمحتها أمامي تبعثر تأملاتي الشاردة, في ابتسامة خلاقة. قالت " هل حقا تكتبين في جريدة؟ " استغربت لوهلة من موقفها الجريء, دون مقدمات, بل بعفوية تامة تسألني, وشدّما تعلقت بمواقف العفوية لأنني طالما اعتبرتها إبداع بحدّ ذاته, أن نبتعد عن التصنع الإجتماعي الذي عرفناه عادة في مسارح الكبار الذين يدّعون الإنفتاح والتحرّر..

كنت أتأملها بخشوع غريب لم أستطع تفسيره, ثم أومأت بابتسامة " نعم " فطلبت مني أن نجلس قليلا لأنها ترغب في محادثتي. وبالفعل كان..

"هل درست الإعلام؟ "

"لا.. فأنا لا زلت في المرحلة الثانوية وأبلغ السادسة عشر من العمر.. لكنني أعمل إلى جانب دراستي في مجلة محليّة كما أكتب الشعر والنثر في جريدة."

"هائل! أنت مبدعة إذن.."

"ليس بالضرورة.. لا أدري.. فالطريق طويل.. لكني أحلم في لقب (الكاتبة).."

ثم ارتسمت ملامح الحزن على وجه نعيمة فجأة.. واغرورقت عيناها بالدموع..

"هل تكتبين الشعر حقا؟ "

"أجل.. ولكن.. ما الخطب.. لم أنت حزينة؟ "

"هلاّ سمعت شيئا مما تكتبين... من فضلك؟ "

"مممم... في الحقيقة, دفتر كتاباتي ليس معي الآن.. ولكن أستطيع أن أعطيك عدد اليوم من الجريدة .."

"أنا أشكرك.."

ثم صعدت إلى أمي وصرت أحدثها عن نعيمة بحماسة, لكنها لم تكترث بالأمر..

كنت أمكث مع والدتي في المستشفى حتى الغروب ومن ثم يأتي دور أختي لتتابع المهمة فأرجع أنا إلى البيت, لأستيقظ في الغد, أتهيأ للذهاب إلى المجلة وأعود أمي بعد انتهاء الدوام.

في اليوم التالي, عدت أدراجي من المجلة إلى المستشفى. رأيت نعيمة تنتظر عند باب الكافيتيريا نفسها, لم تكد تلمحني حتى أسرعت نحوي بابتسامتها الخاصة وأخذت تنثر كلمات الإعجاب بما كتبته في الجريدة..

لا أنكر, شعرت كما لو أنني نجمة سينمائية يومها, فأنا اعتدت أن أسمع عبارات الإعجاب من شفاه عائلتي, أساتذتي وزملائي في المدرسة أوالجريدة, ولكن هذه المرة تعدّى الإعجاب ذاك الإطار الأسري,الأكاديمي والتربوي.. هكذا تخيلت.

"نعيمة.. كم أنت لطيفة.. أنتظريني..سأنزل حالما أطمئن على والدتي لنتابع حديث الأمس.."

"لا.. بل سأصعد معك لأطمئن عليها أنا أيضا.. إن لم يكن في الأمر ما يزعجك طبعا.."

"على العكس.. هيا بنا.."

لم تعر والدتي أي اهتمام لنعيمة, ما جعلني استغرب الوضع فقد تعودت أن تعلق على كل شاردة وواردة فما بالك والأمر يتعلق بصديقة جديدة... لكني تعمدت أن أبقى صامتة.

شعرت أن نعيمة لم تكن مرتاحة, وسرعان ما طلبت مني أن أنزل معها الكافيتيريا لتطلعني على شيء ما..

جلسنا أمام طاولة جانبية, وإذ بها تقدم لي دفترا صغيرا فتقول:

"أنا أيضا مولعة بالشعر.. آمل أن تنال كتاباتي إعجابك.."

فتحت دفترها الصغير وبدأت أقرأ.. فأنهيت آخر حروفها دون أن أشعر بالوقت.. كان أسلوبها في الكتابة ساحر.... يحضر الرجل, العدد والحرف في قصائدها بشكل ملحوظ.. وتبذل المعاناة في معانيها قصارى جهدها لتبتسم أمام موقف عابر, لكنها ابتسامة لا تخلو من دمعة حارقة أو عناق لاهث..

عشت فيها قصة معاناة قبل أن تخبرني عن حياتها.. غرقت في معاني كلماتها عند عتبة القصيدة الأولى.. رأيت فيها أديبة واعدة مع كل بداية ونهاية في قصائدها..

ثم أسدلت أجفان الدفتر فاسترخت الصفحات الصفراء على الطاولة إلى جانب عصير الليمون..

"أنت أيضا تكتبين يا نعيمة. وأسلوبك ساحر.."

"ما الفائدة.. أنا أكتب وأنا أقرأ.. وأحيانا كثيرة لا أقرأ.. لأنني أخاف أن أقرأ.."

"مم تخافين؟ "

"أخاف نفسي.. لا يسعني احتمال اللوم.. نفسي قاسية.. قد تكون مجرمة.. حين أفكر بانتقاد نفسي وأنا أتذكر جيدا الفتاة التي كنتها في يوم مضى.."

"لم أعد أفهمك يا نعيمة.. تشوشت أفكاري وأصبحت بحاجة إلى إعادة ترتيبها من جديد.. فهل يمكنك رسم كل ما تودينه على صفحة بيضاء؟"

"صفحة بيضاء.. يعجبني هذا التعبير كثيرا.. إن كل شيء يبدو طاهرا فوق صفحة بيضاء.. حتى الخطيئة نفسها.."

"حدثيني عن خطيئة ما تؤلمك.. فأنا بدأت أتغلغل إلى أعماق روحك وأسمعك جيدا.."
"كنت الأكثر ذكاء بين زملائي في المدرسة. لطالما حلمت بالتفوق الواعد وأنا أؤمن بأن اللآلىء صعبة المنال والنجوم بعيدة المطال..
فرض والدي علينا مغادرة الموطن منذ سنتين دون أي اعتبار لنا, ليعمل (ناطورا) بأجر لا بأس به لدى إحدى العمارات الفخمة في هذه المنطقة. فرض علينا أن نترك الدراسة أنا وأخوتي الثلاثة, لنساعده في أعمال الخدمة والتنظيف. لو أن والدتي حية, لما رضيت لنا هذا الحال أبدا. لطالما رسمت أحلامها الصغيرة الناعمة في وجوهنا, بمستقبل مهني رائع.كم أشتاق إلى حقيبتي ومقعد دراستي, كم أشتاق إلى معلماتي و زميلاتي.. أشتاق إلى الأقلام ورائحة الحبر والطبشور..

ما يزعجني فيكسر صبري ويشدّد الرباط حول عنقي, هو اضطراري لعدم المقاومة, لاستسلام مهين لرغبات بعض أصحاب النفوذ, دون أي اعتراض أو مواجهة, فأنا ابنة الخادم وعليّ الطاعة..

ما أصعب دنس الروح.. ما أصعب الشعور بالعبودية.. ما أصعب الإحساس بأن المرأة مجرد فريسة طازجة تشبكها صنارة صياد في أي وقت.."

"لا أستطيع احتمال المزيد.. هذا الوجه الملائكي الحزين, تغلفه كل هذه المعاناة؟ إسمعي, هل ترغبين أن تقرأ قصائدك؟ "

"أحقا تقولين؟ هل بإمكانك مساعدتي فعلا؟ "

"بالطبع.. سأعرفك على رئيس التحرير, أنا متأكدة أنه سيعجب بكتاباتك.. إنها حقا رائعة.. بل مدهشة. إتصلي بي فور مغادرتنا المستشفى لنتفق على ميعاد أصطحبك فيه إلى الجريدة.. سوف تقرأ كتاباتك يا نعيمة قريبا.. كوني واثقة.. أنا أعدك..أنا أعدك.."

لا أستطيع وصف وقع المفاجأة على وجه نعيمة حينها, كانت قرعات قلبها ترن في مسامعي.. لكم شئت أن أمنحها ولو قسطا بسيطا من السعادة الحقيقية الطاهرة لتشعر بإنسانيتها وقيمتها, لتتأكد من موهبتها الذهبية.. لتهدي ولو جزءا من حلم المجد الواعد إلى روح والدتها..

مضت أيام ونعيمة لم تتصل, حتى فقدت الأمل في لقائها مجدّدا , إلى يوم نادتني فيه والدتي لأرفع سماعة الهاتف..

"ألو.. أنا نعيمة.. هل تذكرينني؟ إلتقينا في المستشفى وقرأنا الشعر و..."

"أتذكرك جيدا.. هل أنت بخير؟ كنت أنتظر اتصالك.."

"هل نلتقي؟"

"أجل"

"أين"

"أينما شئت"

"عند مدخل الحديقة العامة, في تمام الساعة التاسعة صباحا. يوم الجمعة. هل يناسبك؟"

"لا بأس.. فليكن.."

أغلقت سماعة الهاتف وأنا أراجع صوت نعيمة في ذاكرتي, كان حالة انخطاف روحي وشم أعماقي.. بقيت طيلة الأسبوع وأنا أفكر في طريقة أحيك فيها حيلة تقنع رئيس التحرير بموهبة نعيمة دون أن يستفسر عن وضعها المهني أو مستواها العلمي, حتى أتى اليوم الموعود.. كنت أعاني من نوب صداع نصفي منذ صغري, نوب تتركني طريحة الفراش طيلة اليوم.. ما منعني من لقاء نعيمة. كنت أغيب عن عالمي, وأتوحد في وجع ساحق..

في اليوم التالي, إستيقظت بحالة أفضل, لكني نسيت أمر نعيمة تماما, لم أفكر حتى بموعد بيننا.

كل شيء يتعثر فهمه.. كيف نسيت نعيمة؟ كيف يتحكم الوجع بأجساد البشر بهذه القوة؟ كيف يتحكم حتى بأفكارهم والذاكرة..

بعد أسبوع تذكرت نعيمة, شعرت بأنني في حالة هذيان.. ياللحرج! كيف يمكن أن أعاود الإتصال بها مجددا لأشرح لها المانع الشديد الذي تحكم بموعدنا فحال دون لقائنا؟. لوهلة تذكرت رقم فادي.. أجل فادي صديقها الوحيد في لبنان. كان شابا في العشرين من عمره, إنه ابن أحد سكان العمارة, وكان يستمع لنعيمة دائما و يؤازرها في محنها. هكذا أخبرتني, حين التقينا في المستشفى وطلبت مني أن أهاتفها عبر رقم فادي إن استدعى الأمر لذلك. طفقت أبحث عن رقم فادي كما غريق يبحث عن قشة في دوار بحري.. وسرعان ما طلبت الرقم, سائلة عن نعيمة, فكانت المفاجأة, صوت رجل يبدو أنه في العقد الخامس, أجاب في صوت لاهث:

"من معي"

"هل يمكنني التحدث مع فادي أو نعيمة من فضلك؟"

"ألا أنفع أنا؟ إسمعي مني يا حلوة و....و.. و..."

أغلقت سماعة الهاتف وعاودت الإتصال في اليوم التالي, وكان الصوت نفسه, في حالة هيستيرية ربما...

"لا فادي هنا.. لا نعيمة هنا.. أنصحك بعدم السؤال مجددا عن نعيمة على هذا الرقم."

ثم أغلق سماعة الهاتف بعصبية ملحوظة, بل وتدعو لألف سؤال وسؤال..

في الحقيقة, لم أكن أملك الجرأة للمعاودة. وانتهى أمر نعيمة في ملفاتي. هكذا فكرت..

إلى يوم شاء القدر أن أزور المستشفى نفسها, لم أكن أفكر في السؤال عن نعيمة أبدا, لكن واجهة الكافيتيريا, أعادت رسم المشهد في ذاكرتي, نعيمة وعبراتها الساخنة الفائضة يأسا, نعيمة ودفتر القصائد اليتيم, نعيمة والحلم الضائع.. ولست أدري أية قوة دفعتني لسؤال أحد الموظفين عنها. تمنيت وقتها لو ابتلعني الثرى ولم أسمع ما سمعت عن نعيمة..

نعيمة.. الفتاة الرقيقة.. العاطفية.. النسمة.. وقعت فريسة طازجة بين يديّ صياد كهل في عمر والدها.. ومن يومها غادرت نعيمة المنطقة, أو ربما البلد بأسره.. من يومها, أحد لم يسمع خبرا عن نعيمة..

حين أفكر في نعيمة اليوم.. يجول في ذهني زخم هائل من الإستفسارات والتساؤلات.. أفكر في كل شيء, في أي شيء, وكل شيء تستعصى الإجابة عنه.. لا شيء سوى الغموض..

حين أسترجع ذكرى نعيمة, أفكر في المرأة, في الرجل, في الدونية, في الصيد, في الكوادر الإجتماعية, في أصحاب النفوذ الذين تترعرع بطونهم وراء الستار, في التناغم الأسري, في الحق والباطل, في كتب الفلسفة ورجالات التاريخ.. حين أفكر في نعيمة, أصل في أفكاري إلى حدّ العولمة والإنترنت.. فأرى أفكاري سابحة في هذا الرمادي اللامتناهي, بحاجة إلى إعادة الترتيب من جديد لأتمكن من التفكير بنعيمة مجددا بشكل منطقي وعصري ربما.. لأتمكن من حياكة نهاية لهذه القصة, أستنسخ فيها صديقة من روح نعيمة, تدلني على آخر مشهد عبر مخيلتها قبل مغادرتها الوطن..

إن النهاية الحقيقية هي أن نحيا دون حكمة..

كاتبة من لبنان - من مدونتها على فيس بوك
(86)    هل أعجبتك المقالة (92)

liwaa

2010-07-18

ما شاء الله القصة جميلة ومؤثرة .


نورهان

2010-07-18

مقالة رائعة فعلا جعلتني عاجزة عن الكلام لا استطيع القول إلا انها رائعة لكنني ارغب بمعرفة بعض المعلومات عن الكاتبة.


ياقوت الأحمد

2010-07-18

في عالمنا القاسي العديد من المبدعين.. كتّابٌ وسعراء لم نسمع بهم.. فقط لأنهم لم يجدوا من يحتضنهم.. ويضعهم على الطريق الصحيح. وأيضاً، بيننا العديد ممن لا يجرؤون على نشر إبدااتهم، خوفاً من فضح دفاترهم الخاصة أمام الجميع.. وهذا أمر يزعجني! فإخفاء الموهبة الإلهية لهكذا سبب هو برأيي جريمة أرجو أن يأتي يومٌ تندثر فيه هذه النوعية من العقليات. أحييك صديقتي علا على هذه اللفتة.. فلطالما صارفت شعراء ومبدعين لميسمع بهم أحد :) دمت بخير.


محمد البحيري

2010-07-18

تحية للاحساس العالي الذي عبرت عنه الكاتبة، والفاظها التي اختارتها بدقة ولكن لي تحفظان: الاول هو استخدام لفظ "ناطور" فانا مصري، وتعبت كثيرا حتى فهمت ان معناها "حارس". الثاني: احمل الكاتبة مسؤولية المصير الذي لحق بنعيمة، لان كان بيدها ان تساعدها وتغير حياتها تماما، ولكنها لم تفعل! تحياتي للكاتبة وقلبي مع نعيمة .


يوسف البوش

2010-07-19

رائعة يا علا.


عبدالله البوش

2010-07-19

تعابير راقية وأحاسيس مرهفة، حين نقرأ ما بين السطور ، وما وراء الكلمات، نجد الكم الكبير جداً من المعاني والمناقشات لمشاكل إجتماعية عديدة. أطيب التهاني للكاتبة على القصة الرائعة،أما بالنسبة لموضوع مصير نعيمة الذي حمله الأستاذ محمد البحيري مسؤوليته للكاتبة، فأنا أختلف معك أستاذي لأننا دائماً كقراء ننتظر النهاية السعيدة للقصة لتكون مثاليةوجميلة، متناسين أنها لن تعود واقعية ولن تطرح مشكلة تحتاج لحلول، فمشكلة نعيمة نراها يومياً في حياتنا اليومية،وبهذه الطريقة أرى القصة واقعية وتحفزنا لأن نضعهانصب أعيننا ونعمل لمواجهة هذه الحالة من خلال التوعية الدائمة للفرد والمجتمع... تحياتي واحترامي .


علا البوش

2010-07-19

أشكر حضوركم الأنيق, محبتي واحترامي للجميع..


التعليقات (7)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي