دكتوراه في الإعلام - فرنسا
يبدو هذا العنوان غريباً للوهلة الأولى، ولكنني أجزم أن شباب الأمة العربية سيفهمونه فوراً دون جهد. ولقد استعرته من أحد التعليقات التي مرت في مواقع المسياح (النت) قبل مباراة ألمانيا وإسبانيا في بطولة كأس العالم لكرة القدم، المقامة حالياً في جنوب إفريقيا.
العنوان السابق أحد التعليقات العجيبة التي امتلأت بها صفحات المواقع الإلكترونية تشجيعاً لألمانيا أو لإسبانيا، وقد وعد صاحبه بأنه سيحطم رؤوس الأغيار بالماكينات الألمانية، والأغيار هنا ليسوا هم الإسبان البتة، بل جيراننا وأقاربنا وأصدقائنا العرب الذين يشجعون إسبانيا أو غيرها، وأجزم أن صاحب التعليق قد كتب هذه العبارة مرات عدة، مرة للبرازيل ومرة للأرجنتين وثالثة لألمانيا، ولا بد أنه سيكتب واحدة جديدة لإسبانيا أو أنه "سيطحننا بالطواحين الهولندية" لاحقاً. فالفراغ من جهة وتلاحق الانكسارات العربية على جميع الصعد من جهة أخرى يجعل بعضنا يحطم بعضاً بالماكينات الألمانية بحثاً عن أي نصر حتى ولو كان هذا النصر فوز الفريق الذي يشجعه على الفريق الآخر.
الناظر إلى تعليقات القراء على خبر استعداد إسبانيا وألمانيا للقائها، يرى عجباً أساسه الفراغ الذي أصاب شبابنا وبناتنا، وعلم آخر الزمان الذي دفعنا "للتناطح" على نتيجة مباراة لم تقع بعد، ولا أحد يمكن أن يتكهن بنتيجتها، فكرة القدم هذه كما تحتوي الفن واللمسات المدروسة تحتوي أيضاً على الصدفة في فوز هذا الفريق أو ذلك، كحصول فريق على ضربة جزاء في آخر دقيقة من المباراة، أو كتفلت الكرة من يد حارس المرمى، بل أسوأ من ذلك إذ قد يساهم الحكم بفوز فريق أو خسارته.
كل هذا لا يلتفت نظر السادة المعلقين على المباراة التي ما كانت قد وقعت بعد، إنما يلفت نظرهم أساليب الشتم والسباب التي يتقنونها جيداً، فقد وصل الأمر إلى حد الإساءة وتقبيح من يشجع الفريق الآخر، ووردت كلمات مثل" أنت أحمق حتى تشجع الصراصير الإسبانية، وتتجاهل الماكينات الألمانية" جملة أخرى "اسكت يا غبي يبدو أنك لم تلعب كرة القدم في حياتك، ولو لم تكن غبياً ما ذكرت إسبانيا في تعليقك فهم وصلوا إلى هذا الدور بالصدفة". وهذا تعليق ثالث ، "ظننتك أعقل من هذا أ فيعقل أن تشجع فريقاً غير ألمانيا" وآخر يقول "عيب عليكم يا صغار تتكلموا في حضرة الكبار أمثالنا نحن المانفشت، ظننتكم عقلاء ولكنكم أغبياء وسنرى يوم الأربعاء".
لست هنا بقصد سرد التعليقات فهي كثيرة وإنما أحببت أن أعرج عليها بسرعة، لكي ندرك أي حالة وطنية نعيشها اليوم، فالمصري يقول لأخيه المصري أنت غبي وأحمق، لأنك تشجع إسبانيا، والسعودي يقول للسعودي سنفرمك بالمكنة الألمانية، وندعس وجهك بالحذاء الألماني.
لا يكفينا أن أمريكا دعستنا بأحذيتها العسكرية، ولا يكفينا أن الكيان الصهيوني على قلة عدد أفراده وجبنهم قتل أبنائنا وشيوخنا ونسائنا ودعسنا بحذائه، حتى أثيوبيا دعست على رؤوسنا في الصومال. وعن وزراء الخارجية الغرب، فحدث ولا حرج إذ استطاعوا أن يتدخلوا في السياسات الداخلية لبلداننا ويدعسوا بدورهم على رؤوسنا، غيروا مناهجنا الدراسية، وأمروا بسجن هذا وتبرئة ساحة ذاك، ووضعوا معتقلات سرية في أرجاء العالم المترامية، ليدعسوا من خلالها على رؤوسنا أيضاً، ونشروا في بلادنا حضارة اللواط. أ فلا نستغرب بعد كل هذا الدعس أن أشقائنا وأحبابنا يريدون أيضاً أن يدعس الألمان على رؤوسنا وكذلك الإسبان والهولنديون ، أ فلا يكفينا دعساً أيها السادة.
التعليقات السابقة تبرر إذاً ما حدث بين مصر والجزائر، فنحن اليوم نتقاتل من أجل مباراة لا ناقة لنا فيها ولا جمل ، فما بالك إذاً بمباراة مصر والجزائر الشهيرة، والتي كادت تودي بالعلاقات بين البلدين، ونتج عنها ضرب وتكسير وحرق للأعلام بل وتهكم على المفاخر الوطنية لكلا البلدين الجارين، والعربيين، والمسلمَين.
يقولون في "الفيفا" لا علاقة للسياسة بالرياضة، ولا للرياضة بالسياسة، هذه لعبة مختلفة تماماً عن أختها. وليس الحق فيما قالوا، فلا شك أن الترابط بين اللعبتين شديد، وقد خدمت الرياضة السياسة والسياسيين خدمات جليلة، ويكفي انشغال الناس اليوم بمباريات كأس العالم، في الوقت الذي تستمر فيه العصابات الصهيونية بالدعس على رؤوسنا في فلسطين، ويستمر فيه الإجرام الأمريكي في العراق وأفغانستان. والرياضة خدمت السياسيين في العديد من البلدان، وخاصة في البلاد العربية، إذ ينشغل الناس بمن سيدعس رأس من، ويتقاتلون ويتجادلون ويتناطحون، بينما يقوم الحكام بالدعس على رؤوسنا والزج بنا في السجون ورفع سعر المنتجات الغذائية، وما إن تذهب السكرة وتأتي الفكرة، إلا ونجد العالم من حولنا قد تغير، فازدادت الأحوال سوءاً وارتفعت الأسعار وثبت الحاكم كرسيه جيداً، وثبت المحتل قواعده أكثر. ونحن نبقى نتناطح فيما بينا أربع سنوات أخرى بانتظار كأس العالم الجديد، وهل ستكون البرازيل حاضرة، وهل تغيب فرنسا، ومن الذي سيدعس على رؤوسنا في المرة القادمة.
كثير من السادة الذين يعلقون في المسياح ويرغبون في الدعس على رؤوسنا بالماكينات الألمانية أو غيرها هم الذي يصفون الأمة العربية بأنها أمة لا تقرأ ولا تكتب ولا تفهم، وتزوج الصغيرات وتعود بالناس إلى الأحلام وتقاتل الحداثة، وهم الذين يتناطحون في نفس الوقت ليعرفوا من سيفوز: العنصرية الألمانية أم قاتلوا الثيران الإسبان. أم الهولنديون عشاق أجساد الأطفال!.
ليس فحسب، بل لقد طالت معارك كرة القدم فريقاً كنا نظنهم من الأخيار من الصحفيين والكتاب ولقد رأيت وسمعت بعضهم يتسابون ويتلاعنون انتصاراً لهذا الفريق أو ذاك.
ورأيت بعض الصحفيين وقد" آمن بدونغا بينما كفر به زميله وآمن بمرادونا" وقد نشبت بين الزميلين مخاصمة أساسها "الكفر والإيمان".
إذا كان كان كاتب الكلمة النجيب يقع في هذه الحفرة فما بالك بمن يقرأ له. وقديماً قالوا إذا كان رب البيت بالطبل ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية