" الفعل هو دائما فعل مع الآخرين، ويمكن للتفاعل أن يأخذ شكل تعاون أو تنافس أو صراع"
بول ريكور - الزمان والسرد-
التساؤلات هذه الأيام تدور كلها حول أشكال التضامن العربي مع قطاع غزة الأبية ومدى مساهمتها في كسر الحصار وتقديم المعونة الإنسانية وتخفيف العبء عن المأساة التي يعاني منها السكان في القطاع. وربما تبرز الصعوبة عندما يتم الربط بين مطلب التضامن وقيمة التسامح والبحث عن السلامة واعتماد أسلوب التفاوض كخطة نضالية اتبعها العرب منذ تدشين النظام الرسمي للجامعة العربية مسلسل المعاهدات الكامبديفدية والاتفاقات الثنائية التجزيئية لاستعادة الحقوق المهدورة.
ما نلاحظه هو فتور فكرة التضامن السياسي الرسمي مع القضية الفلسطينية عند الحكومات العربية وتزايد التضامن الشعبي والمدني مع جنوح نحو السكوت عن الجرائم و التغافل مع الممارسات اللاإنسانية والاعتداءات الفضيعة المرتكبة من الجانب الإسرائيلي المعادي لطموحات الأمة ، في المقابل هناك لاتسامح سياسي ولاتضامن اجتماعي من طرف الأنظمة العربية مع القوى الناهضة والشبيبة الرافضة.
لعل أفضل صياغة لهذه التساؤلات هو: هل كان التضامن العربي ميكانيكيا شكليا قائما على التشابهات وقائما على الانضمام والدمج وفارغا من كل محتوى أم أنه كان تضامنا حتميا وبيولوجيا فرضته الغريزة والشعور القومي ويقوم على الاختلافات ويتم بالتعاون؟ ماهي مجالات التضامن؟ وما الفرق بين التضامن السياسي والتضامن الأخلاقي؟ وهل يؤدي التضامن السياسي إلى اللاتسامح الديني؟ وألا يمكن للتسامح الديني أن يعرقل عملية التضامن السياسي؟ وكيف يتم الانتقال من التضامن كواجب أخلاقي بين أعضاء الهوية الواحدة إلى التضامن كواقعة ملموسة تتجسد في أفعال التكافل والمساعدة والإغاثة والتعاضد؟
نكتة الإشكال تكمن في تناقض سياسة التسامح الانساني مع يوطوبيا حوار الثقافات وتسبب حركة التضامن في نوع من اللاتسامح الديني، وربما مدار النظر هنا يتعلق بتحقيق المصالحة بين المبدئين: التسامح والتضامن تصديقا للآية الكريمة:" خذ العفو وأؤمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين".
بادئ ذو بدء وجد التضامن منذ التشكل الأول للمجتمع البشري بعبارة أخرى أن التضامن هو الحالة الأولية للتنظم الانساني والغريب أن بعض العضويات والأجسام الحية تتضامن فيما بينها من أجل البقاء وليس فقط الأشخاص أو الدول. ويمكن تعريف التضامن بوصفه الاعتماد المتبادل بين الأفراد بحيث أن ما يحدث للواحد يؤثر في الآخر.
في هذا السياق يمكن أن نذكر أن العرب أولا والمسلمين ثانيا والإنسانية التقدمية ثالثا ملزمون بنفس الشيء بالنسبة إلى الكل وهو التضامن مع بعضهم البعض لكونهم جسد واحد وتربط بينهم عروة وثقى وما يمس طرفا يؤثر في الطرف الآخر. وبالتالي فإن لهم دين تجاه فلسطين والعراق عامة وتجاه غزة خاصة ويجب أن يسددوه تجاه سكان هذه المناطق من المعمورة وذلك لمشاركتهم في الخطأ تحريضا عند بعض مراكز الدراسات أو صمتا من بعض النخب السياسية والثقافية، أضف إلى ذلك الاشتراك في المصلحة لما يعود به كسر الحصار عن غزة وحلحلة القضايا العربية من فائدة على نهضة الأمة وتقدم المجتمعات ، كما يعزز التضامن في الزمان قيم الوفاء للمبدأ والبقاء على العهد الذي يربط الجيل الحالي بالجيل السابق ويمهد الطريق للجيل الآتي حتى لا تنمحي الثوابت من الذاكرة ويلفها النسيان بتقدم الصيرورة التاريخية لأن الجيل الحاضر مدين للجيل الماضي بما ورثه عنه ومدين للجيل اللاحق بما يجب عليه أن ينقله إليه.
إن العلاقة بين العرب والعالم وبين النحن والآخر تحكمها بنية ثلاثية للفعل وهي التنافس والتعاون والتنازع وبالتالي دخل العرب في علاقة تنافس مع الغرب من أجل التحقيق النهوض واللحاق الحضاري وأوجدوا كذلك نوع من العلاقة التعاونية مع جيرانهم من الدول النامية مثل إيران وتركيا والبرازيل وماليزيا وباكستان وفينوزويلا والصين والهند وروسيا واليابان من أجل تحقيق هذه الغاية ولكنهم اصطدموا كذلك بعلاقة نزاعية دامية مع الكيان الغاصب والاستعمار الامبريالي الجديد الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية. وما نستخلصه أن العلاقات العربية مع الآخر جاءت في إطار ظروف تاريخية وسياسية لم يصنعها العرب وإنما ساهموا فيها كرها.
من المعلوم أن سياسة العرب الخارجية قد انشعبت إلى نوعين: الأولى مبنية على الإعانة وتفضي إلى السعادة والثانية مبنية على الإعاقة وتفضي إلى الشقاء وعلاقتهم بإسرائيل هي من النوع الثاني وذلك لمنعها كل أشكال التضامن ولاتباعها سياسة لاتسامحية تجاه السكان العزل ورفضها لكل القرارات الدولية. وتظهر الممارسات اللامتسامحة من جانب الكيان الغاصب في تهديد الأمن القومي للدول المجاورة بسبب امتلاكله للسلاح النووي ولقوة عسكرية هجومية وتحكمه في المجال الجوي والبحري واعتراض الأساطيل وقرصنة السفن وتخويف السكان وتجريف التربة واقتلاع الأشجار واحتكار المياه وتلويثها.
أما ضعف التضامن العربي فمرده حالة العجز والخضوع للأمر الواقع وتفشي الاستبداد وانغلاق الأفق السياسي بالنسبة للطبقة الناشئة وهيمنة العقلية العشائرية والطائفية على التسيير الإداري للمؤسسات والتخوف المبالغ فيه من القوى المعادية وتعثر مشاريع التنمية والتطوير وحالة الركود الثقافي والخمول الروحي واختراق العولمة لنظم التربية مما أضر بتدريس العربية الفصحى والجوانب النيرة من الدين. فكيف يتحول التسامح المدني إلى طريق يعبد حركة التضامن الانساني؟
اللافت للنظر أن التسامح لا يفضي إلى تخلي بعض الأفراد أو الجماعات أو الدول عن المعتقدات الخاصة أو الامتناع عن إظهارها أو الدفاع عنها أو نشرها وإنما هو الامتناع عن كل الوسائل العنيفة أو المهينة أو المؤلمة التي تستعمل في إظهار أو الدفاع عن هذه المعتقدات. ولا يمثل التنافي مع الآخر في الرأي أو السلوك ومع ما يعتقده المرء وما يرمي إليه -كما هو الشأن في التنازع بين العرب وإسرائيل- حجة تبرر عملية استهجانه واستبعاده وإصدار أحكام مسبقة قاسية بشأنه والقيام بردود أفعال عنيفة ضده كما حدث مع أسطول الحرية التركي المتحرك نحو فك الحصار عن قطاع غزة المعزول عن العالم منذ مدة زمنية.
بيد أن خدش هذا الآخر ضمير البشرية واعتدائه على حق التضامن الانساني نفسه ومصادرته مطلب المآزرة الأخلاقية والمساندة المعنوية يبرر وضعه ضمن دائرة الخطيرين على الإنسانية وتصنيفه في الدرك الأسفل من السلم التربوي والحضاري لما أبداه من لاتسامح ومعارضته لكل أشكال التضامن بين البشر ويتوجب معالجته نفسيا من أجل تحريره من عقده العدوانية وإعادته إلى اللياقة الديبلوماسية.
إن معالجة هذه الوضعية العرجاء ومحاربة الأفكار العنصرية والقيم البالية يستوجب القيام بالتمييز بين التسامح الديني والتسامح المدني،إذ يتعلق الأول بالعقائد والفرق ويرنو إلى الإباحة والتمتع بالحقوق و ينقد التعصب والدغمائية ويجعل العلاقة بين الإنسان والمقدس تقوم على الأساس الحرية وليس التسلط والعبودية ، أما الثاني فيدور بين التيارات السياسية ويجب أن تحترمه القوى الناشطة والحركات الضاغطة في المجتمع ويفتش عن الديمقراطية ويحاول غرس قيم الإنصاف والتصافي والصفح.
صحيح أن التسامح الديني يحمل معان الرحمة والفضيلة والمحبة والشفقة والصبر ولكن المعضلة أن تبني العرب لخيار التسامح المدني قد أدى بهم إلى فقدان البوصلة لأنهم تصوره على شاكلة السماح السلبي بوقوع شر حقيقي والتساهل التام مع أفعال تتناقض مع الخير على الرغم من امتلاكهم القدرة على ردها. إن التسامح هو ممارسة حق التضامن الانساني كلما دعت الضرورة إلى ذلك وان التضامن هو التزام الدائنين بتعهداتهم تجاه المدينين ضمن مناخ سياسي مرتكز على مبدأ التسامح. وإن الجمع بين التضامن والتسامح هو الثمرة الطبيعية للتنظيم العقلاني للعلاقات الدولية وإن غرس شجرة الديمقراطية في التربة التابعة لحضارة اقرأ يمر عبر امتلاك الأوطان للسيادة على أراضيها وتمتع الأفراد بنوع من الاستقلال الذاتي والحريات الأساسية والحقوق المدنية وتوفير المشاركة السياسية الفعلية لهم في الشأن العام والتشجيع على المحاسبة والمراقبة وحق المعارضة في النقد وإظهار العيوب وتقديم المقترحات والتوصيات بالنسبة للمخططات المستقبلية للدول.
لكن إذا كان التسامح هو اقتراح الآراء دون السعي إلى فرضها على الآخرين فكيف سيتحول التضامن العربي مع القضايا الإنسانية العادلة إلى واجب أخلاقي وتصبح المحبة هي القانون المدني الذي يصون وحدة النوع البشري من كل تمزق واعتداء؟ فيا ليت -كما يقول رائد التنوير فولتير- "كل الناس يتذكرون أنهم إخوة! ويا ليتهم يستشعرون الفزع والبغض لكل استبداد مفروض على النفوس مثل شعورهم بالفزع والبغض لقاطع الطريق الذي يستولي بالقوة على ثمرة العمل والاجتهاد الهادئ!".
غاية المراد أن الانتقال من الاهتمام بالتضامن إلى تدبير علاقته بالتسامح هو انتقال من القانوني والسياسي إلى الديني والفكري، نظرا لأن التسامح هو نوع من الاستعداد النفسي والرؤية الإدراكية والموقف العملي لدي الإنسان المتساهل مع المغايرين ويتفهم تصرفاته الخاطئة سواء طلبا للتعايش والتآنس ودفعا لضرر أكبر أو احتراما لحرية الضمير وحق إبداء الرأي والتعبير. فهل يشرع هذا التحديد أن يكون العرب متسامحين متساهلين إلى هذا الحد وأن يغفروا المجازر المرتكبة والحصار المستمر والتجويع المروع والتهديد الدائم للمظلومين في ديارهم وأن يصفحوا عن ذنوب أعدائهم ومغتصبي أراضيهم ومستغلي ثرواتهم؟ وما السبيل إلى رفع التوتر بين التضامن السياسي والتسامح الديني؟
كاتب فلسفي
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية