أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

كلوب والكوفيه ... ايوب الغنيمات

مرت الذكرى الـ62 للنكبة، وأضاف الفلسطينيون رقم جديدا في سجل الأرقام القياسية (غينيس).
فالفلسطينيون منذ تاريخ نكبتهم وحتى اليوم وهم يحققون العديد من الأرقام القياسية في الصبر والصمود، وأعداد الأسرى والشهداء والجرحى، ناهيك عن عدد الغارات الجوية، وحجم وأوزان القذائف التي صبت عليهم والتي فاقت مستوى الأمطار في بعض بلاد النفط، إضافة إلى عدد المهجرين والنازحين والمعاقين، وكذلك أصغر المعتقلين عمرا، وأقدم أسير في العالم والذي ما زال أسيرا، وعدد المقطوعة أطرافهم، وأكبر سجن في العالم من حيث المساحة يشمل غزة والقطاع، بعد أن سُوِّرَا بالجدار العازل، ويضم أكبر عدد من السجناء في التاريخ المعاصر؟! فلو تم تسجيل كل ما سبق لما كفى سجل (غينيس) وعشرة من حجمه لتوثيق ما سبق.
الفلسطينيون كانوا قد دخلوا سجلات الموسوعة العالمية (غينيس) أيضا من خلال أحداث كثيرة منها:
3710 أطفال من غزة سجلوا رقماً قياسياً بإطلاق أكبر عدد من الطائرات الورقية في آن واحد، بلغ عددها 6000 طائرة ورقية، كذلك سُجل في مدينة الخليل رقم قياسي تحت اسم أكبر ثوب فلسطيني تراثي مطرز يبلغ طوله 32 متراً، بالإضافة إلى تسجيل فلسطينيي مدينة نابلس رقماً قياسياً لأكبر صينية كنافة نابلسية في العالم، ويجرى التحضير اليوم لأكبر سدر منسف، وأكبر طنجرة مقلوبة، وأكبر قدرة خليلية... إلخ... إلخ.
وفي 15 أيار من هذه السنة، دخل فلسطينيو لبنان كتاب غينيس مرة أخرى، لكن ليس بسبب أكبر حمص، أو أكبر حبة فلافل، بل عبر أطول كوفية في العالم، بلغ طولها 6525 متراً و59 سنتمتراً، وبذلك كسر الرقم القياسي السابق الذي سجلته «كوفية إسبانيا» التي بلغ طولها 2932 مترا و5 سنتمرات.
قد نتفق وقد نختلف في استخدام الفلسطينيين الكوفية طريقا لدخول كتاب (غينيس) مع إدراكنا أن الكوفية أصبحت رمزا عالميا نضاليا للحرية والتحرر والمقاومة, لكن يجب ألا ننسى أنها اخترعت للتعبير عن هوية إقليمية، وللتفرقة بين مكونات الشعب الواحد, فهي لدى الشعب العراقي مثلا تحمل دلالات وألوانا خاصة للأكراد في الشمال تختلف عن تلك الدلالات الموجودة لدى العرب السنة في شرق العراق، وعن دلالات الفلاحين في الأهواز، كذلك تحمل دلالات أخرى في سوريا لدى أهل الغوطة، أو الفلاحين في حوران ومنطقة الجزيرة, وهذا ينطبق على بعض الفلسطينيين في بعض مناطق الضفة وغزة.
ثم أصبحت جزءا من الموضة، ورمزا للعولمة، بعد أن غزتنا الكوفيات الصينية بألوان غريبة كالوردي والبنفسجي والأزرق والأخضر، لكني لست معنيا هنا بعمل بحث إنثروبيولجي وثقافي حول الكوفيات ودلالتها الرمزية والإقليمية.
ولن نختلف إن قلنا إن الكوفية أو الشماغ هدية قيمة تلقى الاستحسان والقبول من الجميع، فالكوفية من ماركة «فيرزاتشي» وهي إحدى أشهر العلامات العالمية في تصميم الأزياء والعطور ومنتجات التجزئة، يصل سعر القطعة الواحدة منها إلى (141 دولارا) ولها أنواع كثيرة غالية الثمن من قبيل «لمبرغيني» و«روبرتوكافالي» و«كينزو» و«بولغري» و«ميسوني» و«باريشلينو» والتي لا تقل أسعارها عن هذا السعر.
وربما نختلف حول أصل الشماغ، ومن أين دخل بلادنا، وحتى نبسط الأمور نقول إن نسبة الكوفية الحالية إلى مدينة الكوفة نسبة خاطئة، فحتى العام 1930 لم يكن لدينا ما يسمى بـ(الشماغ أو الكوفية أو الحطة أو اليشمغ أو...) المعروف في عصرنا هذا.
أما الكوفية التاريخية، والتي كانت مدينة الكوفة تشتهر بصناعتها، فكانت عبارة عن العمامة، وكلمة (كوفية) جاء اسمها من التكوُّف أي الاستدارة؛ حيث تستدير على الرأس فتغطيه كله، ويقال: اسْتَكْفَت الحيَّةُ: استدارت وصارت كالحلقة, أما كلمة (شماغ) فمشتقة من الكلمة التركية «ياشمق - يشمق» والتي تعني نقابا، أو قطعة القماش التي توضع على رأس الرجل أو المرأة.
فالثابت تاريخيا أن رسولنا الكريم وآل بيته عليهم سلام الله، ومن ثم الخلافة الراشدة، كانوا يرتدون العمامة، وبعض تلك العمامات ما زالت موجودة في متحف طوب كابي في إسطنبول، وقديما قيل إن (العمائم تيجان العرب) فكبار القوم وأصحاب المكانة الراقية وشيوخ القبائل تتزين رؤوسهم بالعمامة العربية، ومن المؤسف أن العمامة العربية قد اندثرت وحلت محلها الكوفية أو أغطية الرأس الأخرى.
والثابت تاريخيا أيضا أن الطربوش العثماني الأحمر عرف في بلادنا ابتداء من العام 1824م، حيث أمر باستخدامه بأنواعه الكثيرة (السلطان محمود الثاني) ومن شبه المستحيل أن نجد صورة فوتُغرافية أو إشارة أو كتاب تاريخ يشير إلى وجود الشماغ بصورته المعروفة حاليا قبل سقوط الخلافة العثمانية والصورة المختزنة للكوفية في عقولنا ناتجة عن المسلسلات، وخصوصا المسلسلات السورية والبدوية التي تروي أحداثا جرت قبل زوال الخلافة العثمانية، والتي يرتدي فيها المقاومون ضد العثمانيين أو الذين يشنون الغارات على عرب الشيخ (زعلان) الكوفية، وقد أشار الرحالة السويسري جون بيركهارت في نهاية القرن الثامن عشر في كتابه (ملاحظات حول البدو والوهابيين) إلى وجود لباس تقليدي للرأس لدى البدو قريب من الكوفية الحالية، غير أنه مختلف بلونه وحجمه وطريقة لباسه.
ويرافق الكوفية أو الشماغ دائما رفيقها الدائم (العقال) العقال -وجمعه عُقُل- والعُقُل هي حبال قوائم الإبل، حيث تعقل به إحدى يدي البعير لتقييد حركة مشيه وتقليلها أو منعه من المسير. والعقل هي حبال مبرومة مصنوعة من الوبر أو الصوف أو الشعر تلبس فوق الكوفية، وقيل إن بداياته كانت مع خسارتنا الأندلس وحزننا عليها، ومنها عرفت عصبة النساء.
والثابت تاريخيا أيضا أن كلوب باشا في مطلع العشرينات من القرن الماضي، بعد أن عانت المصانع البريطانية التي كانت تنتج أقمشة يوركشير من أزمة مالية نتيجة الحروب وقلة الطلب عمم على أفراد الجيش العراقي الشماغ الأبيض ذا البقع السوداء، والتي شاعت بعد ذلك خصوصا بين الفلاحين والأكراد.
وبعد أن وصل كلوب باشا إلى بلادنا وتولى قيادة الجيش فيها عمم أيضا ذلك الشماغ الأبيض المرقط بالنقط الحمراء بعد تأسيس وحدات البادية، والتي كانت على تواصل وتماس مع ابن سعود -رحمه الله- وأهل نجد والحجاز عشائريا وجغرافيا، ومنها انتشر في غرب الجزيرة العربية. وحتى اليوم يتفاخر البعض أن الشماغ المصنوع في إنجلترا هو (الإنجليزي الأصلي) وفي ذلك قصة قرأتها في بعض مواقع النت رواها أحد شيوخ العشائر، وتدور أحداثها بين بهاء الدين طوقان -رحمه الله- وهو من أعيان البلقاء، وبين كلوب باشا عن كيفية اختراعه الكوفية وفوائدها.
لم يكن يجدر بإخوتنا في لبنان دخول تلك الموسوعة بشيء يمثلنا ويمثل حقهم وحقنا في الأرض المقدسة، لكن من اختراعنا، ويجب ألا ننسى أن النكبة أيضا اختراع (إنجليزي أصلي).

(93)    هل أعجبتك المقالة (92)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي