يقول الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل: "الخوف من الكارثة يجعل كل فرد يتصرف بطريقة تؤدي إلى زيادة الكارثة"، لا ينطبق هذا القول للفيلسوف المعروف بتهكمه وتعليقاته اللاذعة على شيء، قدر ما ينطبق على ما شهدته قرية كترمايا اللبنانية من رد فعل هائج على جريمة مروعة راح ضحيتها أربعة أفراد من أسرة واحدة (رجل مسن وزوجته وطفلتان بعمر سبع وتسع سنين هما حفيدتاه). المخاوف التي أشعلتها الجريمة كانت بمثابة زيادة الكارثة، تجلى بانقضاض أهالي القرية على المشتبه فيه بالضرب والطعن، وحتى بعدما تم تخليصه من أيدي المهاجمين الغاضبين ونقله إلى المستشفى تم اللحاق به والإجهاز عليه وسحل جثته في الشوارع قبل أن تعلق على عمود كهرباء.
كل ذلك الفعل الانتقامي لم يُهدّئ ثورة الغضب، أو ما يسمى (فورة الدم) التي غيبت العقل تماماً وأعمت البصائر عن أن التحقيقات لم تنته بعد وما زال المعتقل مشتبهاً فيه، بل إن من شأن قتله تضييع الحقائق في حال كان مدفوعاً لارتكاب جريمته. الهائجون ظلوا على هياجهم وغضبهم حتى بعد مرور أيام على القتل والتمثيل بالجثة، وغالبية الآراء التي رصدتها التقارير الإعلامية في قرية كترمايا بررت الثأر الهمجي، بل وطالبت بالمزيد، لأن جريمته كانت شنيعة وأفظع من أن يحتملها العقل والمنطق. وهنا تبرز مسؤولية الجهات الأمنية التي سمحت بوجود المشتبه فيه في مكان تجمع أهل القرية وقت تسلمهم جثث الضحايا الأربعة، أي في ذروة تأجج مشاعر الاستنكار والحزن، اللحظات التي يذهب فيها العقل بإجازة مفتوحة وينفتح على احتمالات جنون غريزي جماعي، تقوده رغبة جامحة عمياء للانتقام.
هذا ظاهرياً، لكن في العمق كان الخوف من هول جريمة فظيعة يقود الجموع إلى ارتكاب جريمة لا تقلّ فظاعة عنها، وكأن الرد على القتل لا يكون إلا بالقتل، وهو خوف في أحد وجوهه ناجم عن ضعف سلطة القانون الناظمة للسلوك الاجتماعي، في ارتداد نحو البدائية لا تهدف للثأر بقدر ما تهدف إلى حماية الذات، ومنع تكرار جرائم كهذه. ارتداد جاء صادماً في كترمايا، بعد أن بات ظاهرة عادية في العراق في ظل الانفلات الأمني وغياب سلطة الدولة، كان من أبرز نتائجه الارتداد نحو العشيرة والعائلة سبيلاً أوحد للدفاع عن النفس.
فهل هي عدوى أصابت كترمايا؟ بالتأكيد لا ليست عدوى، فقد سبق للبنان وكأي مجتمع إنساني عانى من الحرب الأهلية أن شهد ردة همجية، ومن الطبيعي أن يسود وقت الحروب والفوضى منطق شريعة الغاب، لكن ليس من الطبيعي أن تظهر علاماته المتوحشة في قرية وادعة مثل كترمايا في وقت يشهد لبنان هدوءاً سياسياً وإن كان نسبياً، فالصدمة المتوحشة سواء جراء قتل أربعة أفراد من عائلة واحدة وبطريقة مروعة، أو التمثيل بجثة المشتبه فيه، لم تجد مبررات لها، وبدت وكأنها جاءت من خارج السياق، لتزجنا في سياق ما يعتمل في باطن مجتمعات نظن خطأ أنها مكشوفة وواضحة، إلا أنها لا تفتأ بين حين وآخر تفاجئنا بما يكشف عن مخزون هائل من التوحش.
"كترمايا" ليست محض قرية صغيرة قض مضجعها مجرم أو ربما مهووس، وإنما هي نموذج عن مجتمعات إنسانية لا نعرف أين تقف حدودها الجغرافية من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، وعلى اختلاف ظروفها يتفشى فيها الارتداد نحو عوالم مظلمة وبشكل مبطن، فإذا كانت في بلداننا بسبب تهتك سلطة القانون وعوامل أخرى كانعدام الشعور بالأمان الاجتماعي، فهي في مجتمعات أخرى نتيجة توحش الاقتصادات الرأسمالية التي أطلقت يد سلطة المال لتعمل إفساداً للنفوس وتدميراً للأخلاق، والمشكلة أن عدواها راحت تنتقل عبر العولمة إلى المجتمعات الأخرى. فمن جرائم القتل الغريبة مثل انتقام سيدة كويتية العام الماضي من زوجها لأنه تزوج بأخرى فأحرقت خيمة عرسه وقتلت العشرات من السيدات والأطفال، أو قيام أب في قرية (المنكوبة) بمحافظة حلب الشهر الماضي بإغراق أطفاله الأربعة في البحيرة انتقاماً من والده، إلى إقدام أبناء وزوجاتهم على تعذيب والدهم العاجز قبل قتله بطريقة يصعب تخيل بشاعتها... الخ من جرائم راحت تتكاثر في العقد الأخير يجمعها دافع "الانتقام"، وأسهل تفسير لها هو الخلل النفسي، دون أن يعفي ذلك من الإشارة إلى حالة لا أخلاقية عامة ضاغطة، هشمت الحس الإنساني، وجعلت من أخبار الجرائم وسفك الدماء مادة مثيرة، يتوق الناس لمتابعتها. فخبر قتل أربعة أشخاص من عائلة واحدة في كترمايا كان سيمر كما تمر باقي أخبار الجرائم يومياً، لكن انتقام الأهالي من المشتبه فيه والذي صادف أنه من جنسية مصرية، جعل القصة أكثر جذباً للاهتمام وإثارة للاجتهادات، والتي انطلقت في اتجاهات عدة في مقدمتها السياسة فذهب ببعضهم القول إنها انتقام لبناني من مصر بسبب محاكمة خلية حزب الله، وبعضهم الآخر مضى نحو إذكاء نشوب أزمة دبلوماسية مصرية ـ لبنانية. ومنهم من أعاد النبش في الأزمة المصرية ـ الجزائرية على خلفية الصراع الكروي... غالبية الاجتهادات سعت لتبرير مشاعر الجموع، بل وتأجيجها في ما يشبه مشهد المصارعة في الحلبات الرومانية القديمة، حين كان القتل وسفك الدماء غاية تنشدها جماهير المشجعين، وكلما زاد سفك الدماء زادت حمّى التشجيع، وعمرت جيوب المراهنين بالمال؛ مشهد كرسته الأفلام الأميركية عن الحضارة الرومانية، ودعمته لاحقاً بأفلام رعب وعنف وحرب لا تقل وحشية، جعلت من منظر شلالات الدم البشري المتدفقة متعة للشباب الفتي الطامح للسيطرة وتحقيق الذات، ولم تتأخر عن ذلك نشرات أخبار الحروب في المناطق الساخنة، التي تعيد على البشرية فصول الحربين العالميتين الأولى والثانية على نحو أشد ضراوة، لتكون الحصيلة تراكم مخزون بصري دموي هائل لدى الأجيال الناشئة، شكّل بالتآزر مع السياسات الاقتصادية المتوحشة أساساً لارتداد الإنسانية إلى الهمجية البدائية.
وبالعودة إلى الفيلسوف برتراند راسل الذي كان مقتنعاً بأن الحرب النووية سوف لا تترك شيئا للمدنية، نتوقف عند كلماته في كتابه (الانتصار غير المسلح) بأنه "خلال فترة زمنية وجيزة قد لا يوجد أحد ليستمتع بشعر شكسبير أو موسيقى باخ وموتزارت أو عبقرية أفلاطون ونيوتن".
كـتـــرمـــايـــا ... سعاد جروس
الكفاح العربي
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية