هناك الكثير من المؤرخين في مصر والعالم نسيتهم صفحات الكتب علي الرغم مما سطروه وما بذلوا من جهد وكابدوا من مشاق ومالاقوا من تعب الكد والمكابدة.
من بين هؤلاء جميعاً المؤرخ القبطي ساويرس بن المقفع ، الذي يعد من أهم مؤرخي مصرالذين يستحقون الذكر ، فقد كان أسقفاً للأشمونين ولد في حوالي عام 915م ، وكان والده معروفاً باسم المقفع وكنيته أبي البشر.
وتؤكد سيرة حياة ساويرس بن المقفع إلي أنه كان متقناً لعلوم الكتاب المقدس واستطاع بكل جهد أن يؤلف فيها باللغة العربية كتاباً هاماً أسماه " الدر الثمين في إيضاح الإعتقاد في الدين" وقام بترجمة كتابه كله بجهده الخاص ونقله من اللغة القبطية إلي العربية محرزاً قصب السبق في هذا المجال..
كان ساويرس قد اجتمعت له القدرة الكبيرة علي الجمع بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية ، فتلقي علوم الفلسفة التي كانت في أوج ازدهارها ـ وقتئد ـ في الإسكندرية كما كان ملماً بعلوم الكلام التي اطلع عليها في مصادرها الأصلية .
ومن الجدير بالذكر أن ساويرس كان يتقن اللغة العربية إتقاناً كبيراً مما ساعده علي أن يتبوأ مكانة إدارية في الوظائف الإدارية وفي الدواوين التي أنشئت في مصر.
كما أنه استطاع بجهد جهيد أن ينقل إلي اللسان العربي ماتحقق من إنجاز في اللغة المصرية التي كانت متطورة تطوراً كبيراً في صوتياتها وقواعدها وكتابتها وفيما تحتويه من ألفاظ حضارية ودينية وأدبية ، واستطاع أيضاً أن يضع أول قاموس في الترجمة استعان به في عمله ، ولكنه ضاع ولم يُعثر له علي أثر ..
وبحكم القدرات التي كان يتمتع بها ساويرس بن المقفع من ذكاء وحصافة وصل إلي أعلي المراتب الوظيفية في زمن دولة الأخشيد ، فقد وصف بأنه أحد الكتاب المهرة وكانت وظيفة الكاتب في تلك الآونة تعد من أهم الوظائف في الجهاز الإداري للدولة ، وعلي الرغم من ذلك فإننا نجد أن الرجل قد سأم الحياة بكل مافيها من زهو وافتخار ومن علو شأن وما استطاع أن يحقق من نجاحات في كل وظيفة الوظائف تسنمها ، أوأعمال أسندت إليه لا يطاوله في إنجازها أحد ، نجده قد ترك ذلك كله ليلتحق في سلك الرهبنة بأحد الأديرة ..
وقد أشار المؤرخ البريطاني " بتلر" إلي أنه استند علي كتاب هام كتبه ساويرس بن المقفع وهو كتاب " تاريخ الآباء البطاركة" وهو من الكتب الشهيرة التي تركها كما يشير إلي أن هناك ثلاث نسخ من هذا الكتاب معروفة تماماً حيث توجد النسخة الأولي منه في المتحف البريطاني وهي تعود إلي القرن الخامس عشر الميلادي ، أما النسخة الثانية فهي من مقتنيات مكتبة باريس وترجع إلي القرن الرابع عشر الميلادي أما النسخة الثالثة فهي الأقدم وترجع إلي القرن العاشر الميلادي وكانت في حوزة مرقص سميكة باشا مؤسس المتحف القبطي في القاهرة..
وقد اعتمد بتلر علي كتاب ساويرس " تاريخ الآباء البطاركة" حين كتب عن شخصية المقوقس ، وعلي الرغم من اعترافه بذلك إلا أنه تعلل بإستحالة قراءة الكتاب ووصفه بأنه ينقصه الإتقان.
بينما يؤكد علي غير ذلك المحقق عبد العزيز جمال الدين الذي قام بجمع المخطوط وتحقيقه لأول مرة تحت عنوان " تاريخ الآباء البطاركة : ساويرس بن المقفع " في أربعة أجزاء عن مكتبة مدبولي 2006م .
وكتاب " تاريخ الآباء البطاركة" قد يكون من الكتب التي قلما ذكرها أحد ويرجع السبب في ذلك إلي أن البعض ظن أن هذا الكتاب يؤرخ للبطاركة ولا يهتم بتاريخ مصر بينما الحقيقة تؤكد بأن هذا الكتاب يغطي مرحلة هامة من مراحل التاريخ المصري امتدت علي مدي عشرين قرناً من الزمان وأن ساويرس بن المقفع قد استقي مادة الكتاب والمعلومات والأخبارالتي وردت فيه مما وجده في الأديرة المختلفة ومما وجده بين أيدي النصاري .
ويذكر أيضاً مدي مابذله ساويرس من الجهد وما عاناه من المشاق وكابد من التعب في القيام بترجمة الوثائق من القبطية واليونانية مما اضطره للإستعانة ببعض الأقباط الذين لهم دراية باللسان القبطي واليوناني لمساعدته في انجاز عمله ..
وإذا كان ساويرس قد نُسب إليه تأليف الكتاب كله إلا أنه من المنصف القول بأن ساويرس قد توقف في تأريخه عند زمن الدولة الفاطمية ، بينما شارك في استكمال تأريخ كتاب " تاريخ الآباء البطاركة " الكثير من الكتاب والأساقفة بتكليف من الآباء الأساقفة في الكنيسة ، ولكن الكتاب نُسب إليه وحده.
كان ساويرس بحق أول من جمّع سير البطاركة وترجمها من اليونانية والقبطية ورصد الوقائع التاريخية المعاصرة ، وتناول في المخطوط تاريخ مصر منذ الإحتلال الروماني لها في القرن الأول الميلادي وحتي حكم الخديوي عباس حلمي الثاني في أوائل القرن العشرين مما يدعونا للإشارة إلي جهد الآخرين ، وهذا يعني أن أهمية هذا الكتاب ترجع إلي كونه أول كتاب يؤرخ لفترة زمنية طويلة في تاريخ مصر امتدت علي مدي عشرين قرناً من الزمان كما أن الكتاب في الوقت نفسه يقدم هذا التاريخ من وجهة نظر قبطية حيث قدم ساويرس بن المقفع ـ ومن جاءوا بعده من المؤرخين ـ وصفاً تفصيلياً للأحداث السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي شهدها هذا العصر الذي اصطلح علي تسميته بعصر الولاة ويبدأ بالفتح العربي لمصر وينتهي بتأسيس الدولة الطولونية علي يد أحمد بن طولون ، والأهم من ذلك أن ساويرس تعرض في كتابه لعلاقة هؤلاء البطاركة مع ولاة مصر وامرائها وخلفائها كما تعرض أيضاً لعلاقة البطاركة مع النوبة والحبشة وشمال أفريقيا وبلاد الشام .
والكتاب يتناول مدي الحرية التي كان يتمتع بها الأقباط في مصر من ممارسة الشعائر والعقيدة وحرية الإحتفال بأعيادهم الخاصة ، كما أوضح الإهتمام ببناء كنائسهم وتجديدها ، وما تحلت به العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر بأسرها من أخوة ومحبة ..
قدم الكتاب أيضاً بعض الأرقام عن عدد الأقباط الذين اعتنقوا الإسلام ، وذكر بعض الأسماء ممن شغلوا أعلي المناصب وأهمها في ظل السلطة الإسلامية وخاصة تلك المتعلقة بالنواحي المالية والإدارية كذلك أفاض في الحديث عن ثورات المصريين ضد السلطات وأهمها ثورة " البشمور " كما قدم وصفاً لمدينة الأسكندرية بشكل أوسع بكثير ممن قدمه غيره من المؤرخين المسلمين أو الأقباط حيث يشير إلي أن الأسكندرية كانت منذ الإحتلال اليوناني وحتي حكم الأخشيديين تعتبر جزءاً مستقلاً عن مصر حتي في القضاء .
ــــــــــــــــ
بورسعيد
بين مؤرخ وكتاب" ساويرس بن المقفع وكتاب تاريخ الآباء البطاركة"
محمد عبده العباسي
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية