في الدول المتقدمة تكون إدارة الشركات المنتجة بالدرجة الأولى، تليها وزارات الصحة والمختبرات الطبية ثم جمعيات حماية المستهلك لاحقا، هي العقبة الرئيسية أمام أي طرح أي منتج جديد للاستهلاك، فيما تستمر المراقبة الحثيثة لتلك المنتجات لفترة طويلة، لتعويض المستهلك عن أي ضرر يلحق به نتيجة سوء التصنيع أو الآثار الجانبية لذلك المنتج، وذلك أولا: لحماية سمعه الشركة، وتجنبا لدفعها تعويضات تفوق الملايين من الدولارات لبعض المستهلكين المتضررين، وأخيرا لحماية البلد المصنع.
قبل فترة بسيطة أصدرت بعض شركات السيارات العالمية أمر استدعاء عشرات الآلاف من سياراتها نتيجة أخطاء مصنعية، محققة خسارة تفوق ميزانيات خمس دول إفريقية لخمس سنوات قادمة، وقبلها بفترة سحبت شركة (بنت حلال) تنتج بعض الشامبوهات والشورجل (بالعربي صابون سائل) منتجاتها من الأسواق الأوروبية، بعد أن ثبت وجود مادة تدعى سلفاتلورييث الصوديوم Sodium Laureth Sulfate أو قد تكتب اختصارا بالحروف الإنجليزية (SLS) حيث اتضح أن هذه المادة تدخل في تركيب بعض أنواع الشامبو؛ لأنها تنتج قدرا كبيرا من الرغوة، إضافة إلى قلة تكلفتها، ورخص ثمنها. لكن بعض العلماء الأمريكان أثبتوا أنها يمكن أن تسبب مرض السرطان على المدى الطويل.. ولكن تلك الشركة استمرت في سياسة (الزندقة والفندقة) عبر بيع منتجاتها في أسواقنا العربية؟
المحطات الفضائية إجمالا في بلادنا العربية تشترك مع بعضها بعضا في سياسة (اللطم والطبل والزمر) لمن يدفع في كل ما تقدمه لنا من مسلسلات وأخبار ودعايات، وجنت - تلك المحطات - ومازالت تجني من وراء تلك المنتجات الملايين، بحيث أصبح وقت المسلسل أقل من وقت تلك الدعايات، مما يجبر المذيعة الأنيقة على الاعتذار للمشاهدين، قائلة باللبناني: "بنعتزر عن هذا الخطأ، وسوف نعود بكم لمشاهدة الدعاية بعد انتهاء المسلسل مباشرة, فانتزرونا".
الراصد الرسمي -رغما عنه مثلي- للإعلانات التجارية على المحطات التلفزيونية العربية يكتشف بسهولة فن التزوير، والضحك على الذقون، وفن اصطياد البلهاء والعواجيز الراغبات بالعودة إلى زمن المراهقة.
وحتى تخرج الشركات (المحترمة) المنتجة لتلك المنتجات من (خطية) المستهلكين العرب المساكين، فإنها تقوم بنشر رسالة أسفل الشاشة بخط صغير جدا لا يقارن بجسد أو رأس مقدمة الدعاية، وتلك الرسالة السرية لا تدوم سوى أجزاء من الثانية.
قبل فترة أتحفتنا جميع المحطات العربية بدعاية لكريم "برجع الشباب وبخلي الختيارة أم الأربعة والأربعين- طبعا قصدي سنة- ترجع لسن السطعش (16 سنة)" ويوقف التجاعيد, ثمنه ما يعادل 52 دينارا أردنيا، والشركة المنتجة باعت منه ما يكفى لتموين الجيش الأمريكي في العراق لمدة عاما تقريبا.
من استطاع إيقاف الصورة نتيجة أن التلفزيون "شرت وفقعت لمبته -مثل اللي عندي-" واستطاع قراءة الرسالة بدون عدسة مكبرة، تأخذه الحيرة والغيرة على نسائنا، بحيث أصبح الواحد منا يتمنى لو أن "الكريم" فعلا يرجع الزمن (مشان اللي بتشتري مثل هظا الكريم بترجع صغيرة، بلكي بتحصب وبتموت).
الرسالة تقول إن النتائج المذهلة لذلك الكريم جاءت بعد تقييم ذاتي، أو استفتاء قامت به الشركة بين 34 امراة، وأن النتائج ربما تختلف من مكان لآخر.
ببساطة ذلك المنتج حر، وعلى رأسه، فهو في أمريكا وأوروبا رغم أنه ليس له وجود أو حصة سوقية تذكر، ومع ذلك يحقق نتائج، أما في البلاد العربية فربما لن يحقق تلك النتائج مع النساء العربيات -ربما بسبب أن طينة النسوان في بلادنا تختلف عن طينة النسوان برا-.
ما يحيرك أيضا أن تلك النتائج جاءت من تقييم ذاتي لنساء ربما ليس لهن وجود، أو مدفوع لهن، فكيف وبسهولة تتمكن الشركة المنتجة من بيع نسائنا سخافاتها وإسفافها بـ52 دينارا، وحتى لو تم نشر أسماء تلك النساء، أو اسم مركز البحث الذي أجرى الدراسة - إن كان له وجود أصلا - فمن هو المستعد كي يتصل بهم ويتأكد من مصداقية النتائج.
ومع ذلك فإن الرحمة في قلوب أصحاب الشركات السرطانية العابرة للقارات لم تنقطع، وطلبت من النساء اللاتي لا يتوفر المنتج في بلادهن الاتصال برقم معين في السعودية، بحيث يصل المنتج لباب البيت، حتى دون مصاريف إضافية.
إن أسلوب الاعتماد على الأرقام والإحصائيات ونتائج الاستفتاء يضفي الكثير من المصداقية على المنتج المراد ترويجه، إلا أنه من غير الممكن أيضاً التأكد من ذلك بأي وسيلة، سواء أكان المنتج معجون أسنان، أو فرشاة، أو الصابون الذي يقال إن أطباء العمود الفقري أو الدماغ ينصحون به، ومع ذلك لم أسمع حتى الساعة أن أطباءنا (خصوصا في مجمع النقابات) أطال الله في أعمارهم، نشروا أو صوتوا لصالح ذلك المنتج، أو أنهم فعلا في حياتهم الخاصة يتعامون معه, بل إن بعضهم يستخدمون حتى الساعة الصابون النابلسي ماركة (من طينية بلادك لطم خدادك) تشجيعا للصناعة الوطنية، ومقاطعة أيضا لمنتجات الذين يحاربون الله ورسوله بأموالنا.
هل شاهدتم دعاية الطبيب الذي يقول إن مفعول حبة الدواء معه قوي وذو نتيجة, ويضيف الطبيب "فلتة زمانه" قائلا: أتخيل تأثير الحبة عليك, وأنت مش طبيب, يعني "الفهلوي اللي اخترع الحبة جعلها قادرة على التمييز بين الطبيب والكندرجي؟"
هل شاهدتم دعاية كريم التفتيح "اللي بخلي البنت السمرا اللي ما حدا بدو يتزوجها تصير مثل اللبنانيات في ثلاث أسابيع بس، وبعدين بتصير كل الأمة بدها تتزوجها".
هل شاهدتم دعاية كريم العرق، واللي بصير معها باصنصير (المصعد) يوم المستورة بترفع أيدها قدام خلق الله.
والله اللي بشوف التلفزيونات العربية من الأجانب بفكرنا شعب جريان ووسخ ومعفن كمان. ومش عارفين إنه إحنا الشعب الوحيد في الدنيا اللي بدخل الحمام خمس مرات باليوم، وبغسل (وشه) خمس مرات في اليوم، وبمسح شعره خمس مرات باليوم.
وللتأكيد على ما سبق يكفي أن تشاهد دعايات من قبيل دعايات الفوط النسائية بجوانح وبدونها كمان, شامبو للقشرة، وشامبو للقمل والسيبان كمان, صابون سائل وقطع كمان, مزيل العرق للرجال وللنسوان كمان, وسبري لقتل الصراصير والبق كمان، وماكينات حلاقة، ومزيل الشعر، وسائل شطف أرضيات وملمع كمان, ومشان ما تفوح الريحة يوجد دعايات عطر فرنسي وملطف جو بعبير الربيع ونسيم البحر كمان وكمان.
في بلادنا.. يشاء الله.. أن تصبح الدعايات جزءا من علم الفهليولوجيا (بالإنجليزي) أو علم الفهلوة أو فن النصب والاحتيال!.. أي علم الإعلان التجاري.. والذي توارثناه عن طيب خاطر من حرامية و(سرسرية) أوروبا!
يوميا تخرج علينا الجرائد صباح مساء بأخبار عن إلقاء القبض على بعض من يمارسون الطب الشعبي بالأعشاب، كون علاجاتهم لم تحصل على الموافقات اللازمة، ولم تثبت جدواها، ومع ذلك فإن هؤلاء النصابين القادمين من العالم الأول والمتحضر، ومنتجاتهم الهلامية، يدخلون بلادنا، ويحتلون شاشات الفضائيات، وعقول بسطائنا.
ولم يقف فن الهبل والضحك على المساكين عند الدعايات، بل تعدى الأمر ذلك، ووصلنا لمرحلة تعريب برامج تلفزيونية غربية بالكامل، فكم مرة خرجت علينا محطات التلفزيون العربية الأكثر متابعة ببرامج شعرية أو غنائية أو رياضية من أجل مناصرة مشترك من دولة ما عبر اتصال على رقم ما, فأصبح التصويت -لصاحب النهيق الأعلى والرفسة الأجمل- مقياسا من مقاييس الوطنية الجديدة (بالإنجليزي) نيوناشيوليزم، وللي عمره إنشا الله ما لزم, ثم بأي حق تقتحم شركات الاتصالات خصوصيتنا، وتزعجنا برسالة من جهات ومؤسسات تجارية أو إخبارية استغلالية تضحك علينا وتستغفلنا وتقتحم علينا خصوصيتنا، وتضحك علينا برسائل كاذبة عن جوائز وهمية، وحلول للمشاكل، ونغمات، وقصائد، ونكت، وتفسير رؤى.. و..و.. إلخ، على حساب جيب المواطن.. من يحمينا من هؤلاء؟ وهل نستطيع رفع دعوى ضد المحطات الفضائية أو الشركات المنتجة للمستحضرات الهلامية، والتي تقاسمت أموالنا مع النصابين؟
أسواقنا اليوم تمتلئ بالمخلفات والنفايات الدولية التي تباع على أنها سلع ذات قيمة في بلادها، وأصبحنا لكل من هب ودب من الشركات والدول الغربية ساحة رخيصة لاختبار منتجاتهم، ابتداء من لحوم الخراف والأبقار -العوايات- وليس انتهاء بالصابون وسائل الاستحمام، مرورا بالأجهزة الكهربائية، والسيارات التي منعت من السير في بلادها فتلقفها (الشبيحة) في بلادنا، وصارت تملأ كراجات الوحدات، وبطاح سكراب الأوتوستراد في الزرقاء، فمن يحمينا من هؤلاء، وقبل ذلك من يحمينا من أنفسنا، ومتى سوف تتوفر لنا مختبرات على مستوى من المصداقية، بحيث تضحد أو تؤكد مصداقية ما يكتب على العبوات، وما ينثر على الشاشة من دعايات المنتجات
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية