أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

المدمن ... حسن بلال التل



أسوأ ما يمكن أن يشعر به إنسان ليس هو الشعور بالظلم كما يظن البعض، بل هو اعتياد الشعور بالظلم إلى حد افتقاده إن غاب عنك، فذلك الشعور بالغصة التي لا تبدأ أبداً كغصة في الحلق كما يقال؛ بل تبدأ كقرصة في الصدر وبالتحديد أشبه بكماشة تمسك بعضلة القلب من أحد أطرافها فتقرصها، ثم ينزل ذلك الشعور الذي ليس ألماً بمعناه المطلق إلى المعدة فتشعر بجدرانها تنقبض، ثم ترتبك ليصعد فجأة إلى الحلق كغصة، تسبب له الجفاف، وإن كان جفافاً كاذباً، فتصعد بعد ذلك إلى الرأس وتشعر بها فعلياً تتحرك في ثنايا الجمجمة وبين جنبات الدماغ لتتحول خلال دقائق إلى ألم يكاد يشطر هذه الجمجمة إلى شطرين، هذا الإحساس الذي وصفته للتو؛ والذي أعلم أنه شعور مألوف عند الكثيرين، ليس هو أسوأ شعور في الدنيا، بل ما هو أسوأ منه هو اعتياده حتى إدمانه ومن ثم إفتقاده؛ وكل ذلك مع ارتباط وثيق بعدم القدرة على الرد على هذا الظلم أو حتى منعه.

وقبل أيام مررت بإحدى هذه المواقف التي جاءني معها هذا الشعور، وكالعادة كان الحل الذي ألجأ إليه كثيراً هو أن أنزل إلى وسط عمان ليلاً، حيث أمشي بين شوارعها المعتمة الفارغة حتى يصيبني من التعب ما يفوق ذلك الظلم فأعود إلى فراشي وأنام، آملاً ألا استيقظ بعد ذلك، فإن استيقظت فإن قسطي من كوابيس الليل يكون كفيلاً بأن يكون قد نَفَّسَ بعضاً من ذلك الشعور الذي تحتاج الجرعة منه إلى أيام حتى تزول.

وفي ذلك اليوم بدأت مشواري في وسط عمان قريباً من سوق السلاح، وحملتني قدماي حتى سور المحطة أو ما صار يعرف برغدان الجديد، هناك على ذلك السور ولصيقاً بالشارع تجد زملاءك من مدمني الظلم، أناس جاؤوا إلى هناك ليبيعوا حياتهم , ربما ثمناً لرغيف خبز أو زجاجة خمر أو حتى جرعة هروين، وإن كان الأغلب يبيعونها لقاء رغيف الخبز، هناك تجد من يبيع ألعاب أطفاله، أو فرشاة أسنان مستعملة ومعها أنبوب معجون أيضاً شبه فارغ، فردة يمين من حذاء قديم، أو ستيان نسائي تنقصه الحمالات، أشياء يبدو عليها أنها متعبة حتى أكثر من أصحابها، وحتى إن لم تر البائع تستطيع ببساطة ان تتخيل شكله وغالباً سيصيب خيالك إلى حد بعيد.

بعد جولتي بين مدمني الظلم، وشراء بضع أشياء، لم ولن تلزمني، وغالباً ما ألقيها أو تتبرع أمي بالمهمة بعد أن أصل المنزل، وطبعاً دون أن تعترض، فهي أيضاً تعرف ما وراء هذه الحال وما سبب هذا الشراء، بعد ذلك وفي محاولة لتشجيع النفس أتجه إلى أحد محال بيع (السي دي)، أشتري بضعة أفلام كوميدية رغم علمي أنها غالباً لن تعمل وحتى إن كانت تعمل فلن أشاهدها، وهناك في ذلك اليوم وقبل أن أغادر المحل الصغير دخل إلى المحل شخصٌ أعجز حتى اللحظة عن معرفة إن كان في الستين أو في الثلاثين، يبدو على وجهه كل ظلم الدنيا وتكاد ترى فوق كاهليه حجم ما يحمله من تعب، على رأسه قبعة صوفية كانت يوماً سوداء وتحت إبطه مجموعة صحف قديمة ومستهلكة، نظر إلى الشاب الجالس في محل السي دي وسأله بكل بساطة: ممكن أنام؟ نظر الشاب إليه بإستغراب، فأشار إلى الرصيف المقابل لمحله وأعاد السؤال لكن هذه المرة يبدو أن التعب كان قد هدّهُ أكثر فاكتفى بالقول: أنام؟ نظر إليه الشاب بأسى نظرة عرفت منها أنه أيضاً أحد مدمني الظلم، وقال له: روح نام.

توجه الرجل نحو الرصيف، وضع جرائده تحت رأسه ونام، بعد دقيقة توجه نحوه الشاب حاملاً سجادة صلاة قديمة مهترئة وغطاه بها، وتوجهت نحوه وأعطيته ما كنت أظن أنه من الممكن ان يحصل عليه من مال لو باع كل ما يملك وكل ما عليه من ثياب، وصدقوني لم يكن ذلك بالكثير، وعندها رفع رأسه نحوي فرأيت في عينيه المطفأتين الخاليتين من الحياة نظرة أعرفها جيداً، نظرة طالما رأيتها في المرآة، وعندما استدرت قابلتني عينا الشاب في محل السي دي وكانتا بذات الموت وذات النظرة، وفجأة أخذت اتفقد كل العيون، تلك العيون التي تجوب قاع المدينة في آخر الليل، لأكتشف ان الجميع يحمل ذات النظرة .. أو بالأحرى اللانظرة .. الكل يسير وعلى كتفيه تعب يمكن أن تراه وتلمسه، وفي عينيه المطرقتين في أسفلت الطريق موت تكاد تتذوقه، والأغلب جاؤوا هنا ليبيعوا ما تبقى من حياتهم أو ما تبقى فيها مما يستحق البيع، ثمناً لرغيف خبز، أو زجاجة خمر أو جرعة هروين لكن الكل مشتركون في انهم يفرون من ظلمهم المستفرد بهم، إلى الظلم مع الجماعة علّه يكون رحمة، وعندها اكتشفت أننا كلنا مدمنو ظلم مزمنون

(79)    هل أعجبتك المقالة (81)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي