في فرع التحقيق العسكري، يلتقي بنا جنرال كبير، ليخبرنا أن عفوا قد صدر عن سيادة الرئيس، وأننا مواطنون صالحون، وقد جهز من أجلنا ثلاث حافلات خاصة لنقلنا إلى مختلف الأماكن: كراج المنطقة الشمالية، كراج المنطقة الجنوبية، ومركز المدينة..
طلبت أن أخرج مباشرة مشياً على الأقدام؛ فسمح لي الجنرال الذي حنّط على كتفيه نسرين وست نجوم.. أحمل أسمالي وأخرج من ذلك النفق المعتم إلى سرداب عريض مقفل بحواجز الحديد والحراس. كنت أحمل خرجاً من الخيش وحقيبة يد تشبه حقيبة المطهّر أيام زمان؛ حقيبة بالية منتفخة جرباء، محشوة بالكتب والدفاتر العتيقة والمخطوطات، وبضعة أكياس مليئة بالأسمال، وآلة عود من صنع يديّ، مفلطحة هجينة، لا تشبه القيثارة ولا تشبه العود..
أخرج من ذلك الشارع المقابل لكازية الجمارك، الذي بقي مقفلاً بالحواجز والمتاريس، لمدة تزيد عن ربع قرن.. أقطع شارع الجمارك، وعلى الرصيف المقابل أمام محطة الوقود تماماً، أقف وحيداً تحت المطر. وأتمكن أخيراً من إيقاف سيارة صفراء كتب عليها "أجرة". أضع أسمالي في المقعد الخلفي بارتباك واضح، وأهتف بثقة وحماس:
- "الكيكية".. بتعرفا للكيكية؟
- أكيد.. مو حي الأكراد بركن الدين؟
- إي.. هوي
حاولت أن أبدو شخصاً عادياً وأنا أجلس إلى جوار السائق، ولكن في الحقيقة، كانت أحشائي ترتجف، وفمي يرتعش معها، وأسناني مطبقة بقسوة على بعضها، وعيناي صغيرتين أكثر مما يجب، ولساني ناشفًا غارقًا خلف فكيّ، وجلد وجهي مشدودًا كقناع المأجورين.. لكنني كنت أجلس، في سيارة أجرة وكانت يداي طليقتين..
نظر السائق مستغرباً هيأتي ولباسي الصيفي وانكماشي، وكاد يسألني إن كنت غريباً، لكنه قال بادئًا الحديث:
- بس كان لازم وقفت على هذيك الجهة.. لإنو الكيكية هيك اتجاها..
وتابعت السيارة طريقها نحو الكيكية.. ولم تكن المدينة صامتة. أبداً. كان ضجيجها مكبوتاً. وكانت الشوارع أنفاقاً مبطنة بالصراخ.. حجارة الأرصفة المطلية بالأبيض والأسود تشبه أنياب سحّاب معدني عملاق يبتلع السيارات، ومع ذلك، خيل إلي أنها كانت ترحب بي.. المحلات تلمع كأزرار العظم في معاطف المساء. المدينة الفيحاء. عاصمة الأمويين. جنة معبدة بالنوايا الباهرة والشعارات. عاصمة الأرواح والأشباح. جدة الرجال. مئذنة الصدى. صمت الندى فوق المقابر والرخام. كان بيني وبينها زجاج ورذاذ وما عكسه الضوء من بنايات شاهقة وفنادق ضخمة ومحلات. بوابة الصالحية لم تتغير. مسرح الحمراء أصبح على يساري. شارع 29 أيار. المركز الثقافي الروسي.. كانت دمشق حولي. هنا وهناك.
أمام العينين خلف الستائر تحت الغيم والمطر الطاهر. مطر عادل ولكنه بدا لي عبر الزجاج أنه يشنق قطرات الماء على أسلاك الكهرباء. مطر عادل ولكنه لا ينتمي للشتاء. لا يغسل الشوارع ولا القرميد ولا يعكس سيقان الأشجار على الأرصفة. وبدت لي المدينة كما لو أنها تركت جلدها مفروشا فوق الإسفلت، تحت العجلات، وهربت مسرعة إلى الغرف الدافئة، خائفة من حفيف أوراق الشجر ورذاذ الماء. كنت أتفرج عليها وعليّ. يكفي أن أفتح النافذة وأمسك ذيل ردائها. كانت السماء تبكي ببطء ووقار، ومازالت بضع قطرات منها تسيل بيني وبينها، والسائق ما زال يمسك خرقة ويمسح البخار عن الواجهة. كنت أتفرج على وجهي. أخاف أن يكون، ما أراه حقيقة، وأخاف أن يكون محض حلم من تلك الأحلام. ولكن المائة ليرة سورية كانت في جيبي. مائة ليرة حقيقية أخذتها من رفاقي عند الخروج، وبضع عشرات كانت لدي. وألتفت إلى أسمالي في المقعد الخلفي. إلى الحقيبة والعود. لم أكن أصدق أنني أنا. لن أصدق حتى أصل إلى البيت وأراها. هل ستعرفني؟ لو كان لدي هاتف في البيت. لم تكن الهواتف النقالة معروفة بعد. هل أدخل إلى بيت الجيران أولا.؟ ولكن من سيتعرف علي.؟ كنت أخشى عليها وعلى نفسي من المفاجأة. لن تستطيع تحمل ذلك. هل تستطيع.؟
ويسألني السائق فجأة:
- وين بالكيكية؟
ارتبكت ورحت أنظر حولي من خلال النوافذ كالأبله. كانت الرؤية مبللة بالدمع ولكنني كنت واثقا من أنني أستطيع الوصول إلى بيتي وأنا مغمض العينين:
- هلق بس نوصل بدلك..
- هاي وصلنا. هاي دخلة الكيكية..
خفف السائق السرعة وانعطف نحو الكيكية متجاوزاً الجسر الحديدي الصغير. ثم توقف منتظراً مني الجواب. هتفت:
- مظبوط. دغري لفوق..
- لوين لفوق؟
- دغري. خلص امشي..
تحرك السائق من جديد وما إن وصل إلى مدخل الحي حتى أوقفته مترددا:
- لحظة شوي.. مو من هون..
- لكان منين؟ هي دخلة الكيكية..
- إي بس.. يمكن الدخلة الثانية..
- يمكن؟
- لا أكيد. أكيد الدخلة الثانية..
تراجع السائق واتجه نحو الدخلة الأخرى وعندما وصل إلى هناك أوقفته من جديد:
- كإنو مو هاي هيي..
نظر السائق إلي مباشرة وسألني نافذ الصبر:
- أخي. إنت شو قصتك؟
كنت أستطيع أن أخبره بالحقيقة ولكنني خشيت أن يكتشف أمري ويعيدني من حيث جئت..
اكتفيت بالابتسام وقلت:
- بصراحة. أنا كنت مسافر. صار لي أكثر من عشر سنوات. الدنيا هون كلها متغيرة. فتنا صح. أنا متأكد. بس أي دخلة ما عدت أعرف. بأول الدخلة كان في بيوت طين وخشب وكان هون على الزاوية في بياع حمص وفول..
- طيب البيت وين؟ بجنب شو؟ ما في ساحة دكان جامع جيران..
- ما بعرف. مو قادر أعرف.. في جامع بس نسيان إسمو..
- جامع النصر؟
- يمكن. إي يمكن..
- ما في غيرو...
وانطلقت السيارة من جديد متسلقة أزقة الجبل المتعرجة المغمورة بالماء والوحل. وأخذ المطر يهطل بغزارة. وبدأت أشعر بانعدام الوزن والتشوش، كلما شممت رائحة المكان واقتربت من ذلك المشهد الغامض المألوف الذي تحول إلى حلم منسي. أخذ قلبي يدق بسرعة، وبدأت السيارة كما لو أنها ترتفع. تطير في الفراغ. تسبح في الضباب. فوق الطين والحفر وجدائل الماء. بين جدران الحارات العتيقة الضيقة وحوانيت الزوايا الصغيرة المنسية التي أخذت أعرفها ولا أعرفها. وصرخت فجأة عندما لمحت بوابة الحديد السوداء المثقوبة:
- وقّف وقّف..
وترجلت غير عابئ بسيل الماء الذي غمر فردة حذائي. وركضت نحو تلك البوابة التي طالما نسيت مفتاحها على الطاولة داخل البيت. ولكن تبين لي أنها لم تكن هي. فبوابات الكيكية كلها حديدية سوداء مثقوبة ومبقعة بالصدأ، وأزقتها متشابهة مثل المتاهة في الكوابيس. ولكنه لم يكن حلماً أو كابوساً من كوابيس تلك الأيام، بل حقيقة بسيطة ترقى إلى مستوى الكابوس، أو حلماً لا تستطيع تصديقه إذا ما تحقق..
*مخرج مسرحي، وكاتب درامي سوري، معتقل سابق
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية