أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

ناريمان غسان عثمان: روائية تحت سنّ الرشد ... امل عريضة

وصلت إلى يدي رواية (صدى من مدينة الضباب) الحائزة على جائزة الإبداع من دار الفكر، وأنا في لحظات استراحة من الدراسة، فلم أفكّر بغير تصفحها، لكنّ تعليقَ صديقٍ مفاده أنّ كاتبتها السورية (ناريمان غسّان عثمان) كتبتها وهي دون السابعة عشرة من عمرها، حرّضني على التوغل في صفحاتها.  وبما أن أحداث الرواية تدور في لندن فقد اعتقدت بداهة أنّ الكاتبة أمضت شطراً من عمرها الفتيّ هناك.  لاحظت مباشرة أنّ معظمَ المقاطع تتميّز بلغة عربية سليمة وعالية المستوى وغنية في مفرداتها، بينما ظهرتْ مقاطعٌ أقلّ وكأنها ترجمة ركيكة. 

 الحالة الثانية كانت أقرب إلى منطق الواقع المفترض، إذ يندر لمن ينشأ في الغرب أن يتقنَ العربية الفصيحة فهماً كاملاً وكتابة حتى لو كان عربيَّ الوالدين، لكنّ وجودَ الحالتين المتناقضتين -الإتقان والركاكة- حيّرني ودفعني للاتصال بالكاتبة هاتفياً.  أكّدتْ لي أنها لم تسافر إلى لندن، وأنّ معرفتها بالإنكليزية ضئيلة، وكلَّ ماوردَ في روايتها من أسماء الأماكن وصفاتها قد حصلتْ عليه من الصور والمعلومات المتوفرة عبر الإنترنت. 

 ولو كنتُ صبرتُ قليلاً على القراءة لعرفتُ هذا بنفسي، فحضورُ المكان في الرواية ظلّ سطحياً سواء بجانبه الجغرافي أو الاجتماعي، واستبدالُ أسماء الأماكن والأفراد البريطانية بأسماء عربية مثلاً ماكان ليغير شيئاً في سياق الأحداث أو بناء الشخصيات.  هكذا لم أحصلْ على تفسيرٍ لامتلاك الكاتبة لناصية اللغة حيناً وتعثرها بها حيناً آخر سوى صغر السنّ وعدم اكتمال النمو والنضج.  الرواية لغوياً تشبه وجهَ يافعٍ بدأ مراهقته للتو حيث نمتْ بعضُ الأعضاء بسرعة  بينما ظلتْ أخرى على حالها تقريبا.
وجدتُ نفسي مشدودة إلى حالة الإبداع الأدبيّ عند صغار السنّ. 

 تكشفُ تراجمُ المبدعين تبايناً كبيراً في طرائق صعودهم، وكأنّ كلَّ مبدعٍ هو استثناء، فتنبئنا كتبُ الأدب والتاريخ القديمة أنّ طرفة بن العبد نظمَ الشعرَ وهو في العاشرة من عمره،  بينما أصدرَ درويشُ العظيم مجموعته الأولى (عصافير بلا أجنحة) في التاسعة عشرة، وكذلك صدرتْ المجموعة الشعرية الأولى لنزار قباني (قالت ليَ السمراء) وهو في الواحدة والعشرين. 

 رامبو أشهرُ شعراء فرنسا كتبَ الشعرَ وهو في السادسة عشرة، واعتزله بعد أقلّ من خمس سنوات فقط ليعملَ في التجارة.  أما مرغريت ميتشل فقد بدأت بكتابة روايتها الوحيدة (ذهب مع الريح) وهي في السادسة والثلاثين، واستغرقت كتابتها عشرَ سنوات. 

 شكسبير نفسه لم يبدأ الكتابة حتى الرابعة والعشرين، ولم تلفتْ أعماله الأولى الانتباهَ إليه.  وأغاثا كريستي اعتبرت كاتبة فاشلة في بدايتها،  وكان عليها أن تغيّرَ في أسلوبها لتصبحَ الكاتبة الأكثرَ انتشاراً في العالم.  أمّا إميلي دِكنسون أهمَُّ شاعرة أمريكية فجاءَ ظهورُها مغايراً لكلّ المبدعين، إذ لم يُرَحّب بكتاباتها الجديدة في نمطها، واضطرّتْ للتوقف عن النشر باكراً، وانتظرتْ قصائدُها الخبيئة زمناً بعد وفاة صاحبتها لتلقى اهتمامَ النقاد والقراء. 

 من هذا التأمّل الخاطف يتجلّى لنا أنّ البداياتِ لاتنبئ دائماً بالنهايات.  ولاتوجدُ دراساتٌ علمية دقيقة تثبتُ أنّ مَن يبدعُ أبكر يحرزُ تفوقاً أكبر، مع ذلك ينحو العالمُ المتقدّمُ لاكتشاف الطرائق المثلى لاحتضان المواهب المبكرة. 
بين إقامة المنتدياتِ والمؤتمرات والبرامج وإصدارِ المطبوعات بأقلام الأطفال واليافعين يتجلّى اتجاهان.  الأول يسعى إلى احتواءِ الموهوبين الصغار ومنحِهم فرصة للانخراط في الوسط الأدبيّ بجعلهم يكتبون ما يتناسبُ مع جمهور القرّاء، والثاني يحاولُ تعليمَهم كيف يفكّرون ويعبّرون عن أنفسهم.  كلا الاتجاهين يحاولُ إنجازَ خططه من خلال إغراقِ الموهوب بتأثيرات ثقافية معينة.  وقد يفضلُ البعضُ تركه لنموه الذاتي مجنبينه الخضوعَ لقوالبَ سابقة. 

 نقرأ اليومَ كثيراً عن أطفالٍ يصدرون كتبَهم وهم دون العاشرة من أعمارهم.  وتطلبُ معظمُ المدارس في أمريكا من التلاميذ أن ينشئوا قصة ما،  ويضيفوا إليها صفحة كلَّ يوم أو بضعة أيام. 

 هكذا عادت إلينا طفلة ابن أخي في نهاية عامها الدراسيّ الثالث برواية كاملة عن أصدقائها الحيوانات.  ولعلّ الكثيرين من الآباء الميسورين سيفكرون بطباعة ماخطه أطفالهم من قبيل العاطفة والتشجيع. 

 وإذا ماصار هذا واقعاً، وغرقَ العالمُ بمنشورات الأطفال، فإنَّ المرءَ لايمكنه أن يتعاملَ مع الموضوع بنفس الطريقة، أي تقبّل هذه الأعمال بتأثر عاطفيّ يغلبُ عليه التسامح، وإلا لضاعَ حقُّ الطفل الموهوب في أن تقدّرَ فرادته وتميزه. 

 بهذه الرؤية أجدُ أنّ نقدي لرواية ناريمان غسان عثمان لايُعدّ قسوة وشدة، وإنما احتفاءٌ بموهبتها يتجاوزُ مسألة التعاطف مع سنيها الغضة.
تتحدّثُ الرواية عن فتاة (ليودميلا) نشأت في لندن لأبٍ من أصل عربي مسلم وأم إنكليزية.  يموت الأبُ مبكراً فتنشئ الأمُّ ابنتها على المسيحية، لكنّ ليودميلا التي عانت كثيراً من الضياع وبحثت عن الاستقرار والسعادة طوال سنيّ طفولتها وشبابها تختار أخيراً الإسلامَ والارتباطَ برجل عربي مسلم كوالدها والرحيلَ معه إلى دمشق. 

 تحكمُ الرواية نظرة دينية تقليدية، وإن كانت متسامحة أو مصفاة من التعصب إلى حد ما، فرغم اختيار ليودميلا للإسلام إلا أنها اعترفت مراراً بأنها تأثرت بتجربتيّ المسيح وبوذا، ولم تذكرهما بسوء بعد إسلامها.
تقسمُ الكاتبة الشخصياتِ إلى نمطين لاثالثَ لهما.  فتظهرُ الشخصياتُ العربية المسلمة طيبة دمثة متدينة متسامحة وكأنها صورة واحدة راحت تتناسخ وتتكرّر. 

 بالمقابل تمثلُ الشخصياتُ الإنكليزية الجانبَ الإنساني المظلم، فهم يتصفون بكره العرب واحتقارهم ونعتهم بالتخلف.  وإذ مامثلتْ الجدة الإنكليزية التزمتَ والتعصب فإن الشبابَ زملاء ليودميلا مثلوا الصورة العابثة الهازلة الخالية من أي حسٍّ أو شعور.  تستثني الكاتبة أمَّ ليودميلا المسيحية الطيبة والعمَّ توماس صديق الأب الذي وقف إلى جانبهم دائماً.  هذا البناءُ البسيط والسطحيّ للشخصيات، والذي قدّمهم طيبين بالمطلق أو سيئين جدا يعيدنا إلى عمر الكاتبة ونظرتها غير الناضجة بعد.


لقد وعدتُ نفسي برواية عن المراهقة تختلفُ عن روايتي جامايكا كينسيد (آني جون) والأمريكي ج. د. سالينغر (الحارس في حقل الشوفان) بكونها صادرة عن كاتبة مراهقة. 

كان من الممكن أن تكون الرواية شهادة مميزة، لكنّ الكاتبة عالجت موضوعَ المراهقة بسطحية وعمومية، وحاكمتْ نوازعَ المراهقين بفوقية وعقلانية خارجة عن مرحلتها.  فما تكادُ ليودميلا تنجذبُ إلى رفاقها في المدرسة إلا وترتدُّ عنهم شاعرة بتفاهتهم. 

ويبدو أن الاتجاه الديني للكاتبة حدَّ من قدرتها وجرأتها على الكشف، فاكتفتْ بترديد الفكرة السائدة عن انحلال الشباب الغربيّ دون أن تغوصَ في تحليلها أو وصفها.  لقد وقفتْ تراقبُ من بعيد دون أن تسمحَ لبطلتها بالتورط في إشكاليات المراهقة، فخذلتْ توقعاتي إلى حدٍّ ما لأننا بحاجة إلى كتابات عن الأطفال والبالغين من الداخل. 

أي أن يكتبوا منطلقين من مرحلتهم لا مقلدين للكبار.
تعتبر الكاتبة والشاعرة الطفلة أدورا سفيتاك أشهر الكتّاب الصغار اليوم، فقد لفتتْ الانتباهَ إلى موهبتها بقوة حتى أنّ جامعة (ديبول) في شيكاغو دعتها لتحاضر عن تجربتها الإبداعية، كما استضافتها أهمُّ القنوات التلفازية بدءاً ب (سي إن إن).

ولها اليوم موقعٌ خاص على الإنترنت، وهي تعلّم الصغارَ كيف يكتبون.  أصدرتْ مجموعتها القصصية الأولى (الأصابع الطائرة) وهي في السابعة ثم ألحقتها بالمجموعة الثانية (الأصابع الراقصة). تهتمُّ بقراءة التاريخ وتكتبُ أدبَ الخيال التاريخي وقصص المغامرات. 

 تسعى أدورا من خلال كتاباتها ودروسها التعليمية لتعريف العالم بما يريده الأطفال.  إنّها كاتبة تمثل جيلَها ومرحلتها العمرية بشكل جيد، وهذا ماافتقدته في رواية ناريمان غسان عثمان.


وكونُ هدفي من نقد رواية ناريمان ليس التقليلَ من شأنها، وإنما دعمُ موهبتها ودفعُها إلى الأمام، فإنه من الموضوعية الحديث أيضاً عن إيجابياتها.  تملكُ الكاتبة أسلوبَ سردٍ جميل، شائقٍ ورشيق. كما أنّ نسيجَ الأحداث عندها متماسكٌ ومنطقيّ إلى درجة لانجدها أحياناً عند كتّاب متمرسين.  وقد تنقلت بين أزمنة مختلفة من حياة ليودميلا بمرونة عالية مقدِّمة مزيداً من المشاهد التفصيلية لتعزّزَ فكرة أو حالة ما تستأثر بالبطلة.  ولعلّ أكثرَ مانجحتْ فيه ناريمان هو وصفها لعلاقات التوتر السائدة بين ليودميلا المراهقة التائقة إلى التمرد وأمّها الأرملة المؤمنة الجادة. 

 لقد رسمتْ ببراعة كبيرة نفسية طفلة يتيمة تعيش بين عائلتين متجافيتين عرقياً ودينياً.  خبرتْ ليودميلا ألواناً شتى من مشاعر الحزن والاضطراب والكآبة والعزلة النفسية، وهذا ماجعلَ الرواية وجدانية بامتياز.  بل إنّ هذا التركيبَ النفسيّ لليودميلا كان مبرِّراً للكاتبة في ملامستها المجتمع الإنكليزي ملامسة سطحية، فالفتاة المائلة إلى العزلة قلّما عرفتْ شيئاً عن محيطها اللندني.


(صدى من مدينة الضباب) رواية من 300 صفحة من القطع الوسط حازت على جائزة الإبداع والنقد الأدبي لدار الفكر عام 2003،  وتدلُّ على قدرة الكاتبة على الاسترسال الرشيق والجذاب.  الكاتبة الآن في الرابعة والعشرين من عمرها ولها روايتان تحت الطبع.  أرجو أن تكونَ تلافت فيهما عيوبَ روايتها الأولى، والتي كانت حقاً خطوة جريئة وشجاعة بالنسبة إلى عمرها.

(127)    هل أعجبتك المقالة (148)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي