داربه الزمن دورة كاملة ، قرن بأكمله بل يزيد ، مات قبل أن يبلغ الرابعة بعد المائة..
إنه فرانثيسكو آيالا المولود في غرناطة بأسبانيا في العام 1906م وتوفي في العام 2009م ، وهو لآخر المنتمين إلي جيل شعراء الـ 27 الذي ظهر في أسبانيا في القرن الماضي ..
بدا أيالا في احتفال أقيم بمناسبة بلوغه المائة من عمره ، بدا خجلاً بينما هو في الأصل يتدفق صخباً ولا يكف عن إطلاق أحدث النكات ، وبث روح الدعابة والمرح في كل من حوله ..
فرانثيسكو آيالا هو عميد الأدب الأسباني في العصر الحديث ، وهو في الوقت نفسه أحد أعظم الروائيين الأسبان في القرن العشرين ..
مات آيالا في العام 2009 م ، صباح ذلك اليوم استيقظ من نومه متأخراً علي غير العادة ـ كان يستيقظ قبلئذ في موعد محدد ـ من عادته أيضاً أن يطلب من خادمته " فاطيما " أن تعد له طعام الإفطار ، أعدته علي أكمل وجه ، لكنه لم يتناول منه سوي القليل وراح بضع الأكسجين علي أنفه ثم قام بنزعه وهو يتنهد ، عندئذ سألته " فاطيما "عن السبب في شئ من الهمس وكانت تخفي انزعاجها ، أجاب آيالا مثل طفل :
ـ لأتتي سوف أموت الآن ..
وأغمض عينيه ، شهقت " فاطيما " لكنه أمسك يدها وقبلها ثلاثاً ، ثم قال بصوت واهن :
ـ أعتذر عن كل شئ ، أعتذر عن كل شئ ..
ومات ..
كان آيالا في مطلع شبابه يتوقد حماساً نحو دراسة التاريخ والفلسفة والأدب وعلم الإجتماع ، كما سعي في عشق لإتقان لغات عديدة ساعدته فيما بعد علي ترجمة الكثير من المقالات والكتابات الأدبية المختلفة ، ومنها ترجمة ثلاثة أعمال هامة من روائع الكاتب الشهير توماس مان إلي اللغة الأسبانية ..
عشق فرانثيسكو آيالا الديمقراطية في بكريات حياته وناضل نضالاً مريراً من أجل السعي لتحقيقها ، كابد في يلاده وقاسي من ويلات الحرب والتشريد والمنفي ، وظل موزعاً بين تلك الحرب الأهلية التي اجتاحت البلاد وبين إنقلاب الجنرال فرانكو الذي فوجئ بأن آيالا يعيش في المنفي بدولة شيلي موطن زوجته الأولي اتلفينا سيلفا .
وعاد آيالا إلي موطنه ليضع نفسه رهن الإشارة في خدمة بلاده في عهد الجنرال فرانكو ، وبعد سقوط النظام الجمهوري نُفي إلي بيوينس آيرس وقضي فيها عشر سنوات ..
لم يكف طوال سنوات المنفي عن الكتابة ، فساهم في الكتابة في مجلة الجنوب التي كانت تصدر هناك ، ثم في جريدة " لانسيون" وقام علي تأسيس مجلة " مياليدأو " ..
غادر في خمسينيات القرن العشرين إلي بورتوريكو ليقوم علي التدريس في جامعتها بدعوة من مؤسستها ، ثم انطلق نحو الولايات المتحدة لتدريس الأدب الأسباني ..
ورغم سنوات المنفي والتشريد إلا أن آيالا لم يكن لينسي أبداً لغته الأم ، فقد كان يري فيها مرآته ، حملها أينما حل أو ارتحل وكان يدرك تماماً أن أسبانيا التي مهما غاب عنها إلا أنها شغلت جل اهتمامه وكانت دائماً في وجدانه حتي عاد إليها بحلول العام 1960م وألقي بعصا الترحال في مدريد ..
ومع العام 1976م عاد إلي عشقه الكبير في الكتابة وبغزارة عبر الصحف الأسبانية ككاتب أثري صفحاتها بأسلوبه المميز..
وعلي الرغم من كل هذا الجهد إلا أنه طرق كل سبل الإبداع في الكتابة ونال العديد من الجوائز المتتابعة .
في العام 1983م فاز بالجائزة الوطنية في الرواية ، كما نال جائزة الآداب الأسبانية والأندلسية في الأعوام 1988 ، 1990م والتحق بالعمل في الأكاديمية الملكية الأسبانية عام 1984م ونال جائزة أمير اشقوريا عام 1988م ، وجائزة ثرباتيس عام 1990م ..
كان آيالا يصف نفسه دائماً بقوله :
ـ أنا أكتب بشكل زائد عن الحد ، لأنني عشت زيادة عن الحد ، فضلاً عن أنني فعلت كل ذلك بطريقة مكثفة .
وقد قسم النقاد حياة آيلا إلي مرحلتين :
الأولي " مرحلة ماقبل الحرب الأهلية الأسبانية " والتي بدأها بنشر روايته ( كوميديا تراجيدية لرجل بلا روح ـ 1925م ) وكانت هذه الرواية بمثاية تدشسن اسمه ككاتب روائي شد انتباه الجميع بميلاد كاتب واعد ، وناثر من الجيل الذي قاده شعراء الـ 27 ، ثم قصة الصبح ـ 1926م ، الملاكم والملاك ـ 1929م ، صياد في الفجر ـ 1930 م).
امتازت كتابات آيالاً بأناقتها وتألق بأسلوبه المجازي وجمال التعبير والأفتتان بالعالم الحديث.
وفي المرحلة الثانية صمت آيالا كثيراً في منفاه إلا أنه كتب مجموعة قصصية بعنوان " المفتون ـ 1944م " دارت قصصها السبع حول موضوع أساسي ومشترك عن شهوة السلطة .
ومجموعة قصصية بعنوان " رأس الحلزون ـ 1949م " وتدور أحداث قصصها في زمن الحرب الأهلية الأسبانية اهتم آيالا في كتابتها بتحليل المشاعر والسلوكيات للمواطنين الأسبان في خلال هذه الحرب.
أما روايته " وفاة كلب ـ 1958م " فكتب عن مأساة شعب رضخ تحت نير حكم ديكتاتوري عاش المواطن فيه في عالم متدهور وبدون أي قيم .
لم تكن مقالات آيالا تقل بحال عن إبداعه القصصي أو الروائي فقد غطت تلك المقالات جوانب عديدة من القضايا السياسية والإجتماعية الكبيرة ، كما كتب تأملاته حول التاريخ الأسباني في ماضيه وحاضره ، كما اهتم آيالا أيضاً بالسينما والحركة الأدبية في أسبانيا ..
عاش آيالا طوال حياته ليبرالياً متشككاً غير متفائل بالتاريخ ، وعاني علي مدي سنوات عمره من شظف العيش وبؤس التجربة والعنت ، لكنه علي الرغم من ذلك كله كان من هؤلاء الذين يعانقون الحياة بكتاباتهم في روعة وعظمة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
بورسعيد
مصر
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية