لم يكن متوقعاً أن يتحول الاعتصام الذي دعت إليه القوى اليسارية اللبنانية والفلسطينية أمام السفارة المصرية، احتجاجاً على بناء الجدار الفولاذي، أول من أمس، إلى مساحة للصدام مع القوى الأمنية. فقد هجم عناصر مكافحة الشغب والجيش اللبناني على المعتصمين، فكّوا الطوق الدفاعي وانطلقوا لموقع الهجوم، لينال بعض المتظاهرين، وبعض الصحافيين الذين كانوا موجودين في الساحة، نصيبهم من الضرب والركل. قد يبرّر أحدهم ذلك الهجوم عبر اتهام المتظاهرين بأنهم أخلّوا بالأمن، أو بأنهم اقتربوا من الشريط الشائك «أكثر من اللزوم». لكن، هل يكفي ذلك لشرعنة تخطّي القوى الأمنية للسياج، أي للحدود التي رسمتها كخط فاصل بينها وبين المعتصمين، وملاحقة عناصرها للمحتشدين. الأمر لم يقتصر على الملاحقة، فقد استخدم عناصر القوى الأمنية الهراوات وأعقاب البنادق في مواجهة المتظاهرين، بدلاً من استخدام خراطيم المياه أو في أسوأ الأحوال القنابل المسيّلة للدموع التي تستخدم عادة، في الحالات المشابهة، كردّ أولي لضبط الشغب.
هكذا، في خلال لحظات، تغير مسار الاعتصام. فبعدما كان الجو هادئاً وسلمياً، اصطخب محيط السفارة المصرية. في البدء، كانت تظاهرة تقليدية، فالشعارات التي رفعت وردّدت لم تكن جديدة، بل مألوفة، اعتاد على سماعها موظفو السفارة والقاطنون في محيطها، منذ العام الماضي، حين علت هتافات المتظاهرين أيام العدوان على غزة.
بعدما اكتمل الحشد، ألقيت الكلمات الرسمية، فتحدث الأمين العام للحزب الشيوعي خالد حدادة، وممثلون للقوى المشاركة، التنظيم الشعبي الناصري، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة الشعب. بعدما سرت الحماسة في نفوس المتظاهرين، وخصوصاً بعدما لمحوا من يصوّرهم عن سطح السفارة المصرية، ازداد اقترابهم من السياج، و«غمّض عين، فتّح عين»، انزاح السياج الفاصل. فوراً، هبّ عناصر مكافحة الشغب وبدأوا بضرب المعتصمين، مستعملين الهراوات، وأعقاب البنادق.
وفي المناسبة، حين تقع المواجهة، لا تميز الهراوات وأعقاب البنادق بين صحافيين أو معتصمين.
فقد نال الزميل من قناة «العالم» المصور هادي العسل حصته من الضرب، بعدما أصابت عصا أحد العناصر كتفه وكسرت بطارية كاميرته. «معقول يا وطن؟ معقول عم تضربوا الصحافيين؟»، صرخ أحد المصورين للضابط الذي سرعان ما استدرك ودعا العنصر التابع له إلى التراجع.
عمّت الفوضى المكان، فصرخ أحد الضباط بعناصره ليعودوا، لكن «ما في حدا لا تندهي»، فقد كان سريان «الأدرينالين» في أجسادهم المحمومة أسرع من سرعة وصول الصوت إليهم، وهم مشغولون بفرض الأمن. الجيش هجم أيضاً، وكان أقسى في تعامله مع المعتصمين، إذ «لبط» أحد العناصر فتاة على معدتها، ليسحب زميله أحد المعتصمين إلى سيارة الـ«ريو» العسكرية. بالطبع، كل ما جرى لم يكن متوقعاً، فالمواجهات التي اعتادوا عليها كانت حكراً على الاعتصامات أمام السفارة الأميركية في عوكر، لا على تلك التي تقام أمام سفارة دولة عربية. هكذا، تغيّر كل شيء: من تظاهرة تضامنية مع غزة إلى صدامات مع القوى الأمنية التي عملت على استدعاء المزيد من عناصرها. كنتيجة حتمية، اختلفت الشعارات بعد المواجهة، وبدلاً من التنديد بالحكومة المصرية وأفعالها صبّ المعتصمون غضبهم على القوى الأمنية. «عسكر على مين»؟ ردّدوا، و«تسلم يا عسكر لبنان يا حامي أمريكا»، قالوا. فجأة، هدأ الوضع مع القوى الأمنية، وتم احتواؤه، لتشتعل مواجهة من نوع جديد، بين صفوف المعتصمين والمسؤولين عنهم، وخصوصاً بعدما تصرّف أحد المشاركين بعنف مع إحدى المعتصمات، بهدف تهدئتها، لكن حركته هذه ولّدت انزعاجاً لدى بعض المشاركين في التظاهرة. في هذه الأثناء، كان «الرفيق نزار» لا يزال في عهدة الجيش. يخرج نزار وتهدأ النفوس. لا يلتزم المعتصمون بتوجيهات القادة الداعية إلى ترك الساحة. دقائق ويخلي الجميع المكان، بعدما وعدوا بالعودة مجدداً مرددين: «ح نعيدا، ح نعيدا، حسني مبارك ح نعيدا». أما وجهتهم التالية فهي إلى نصب الشهيد جورج حاوي في منطقة وطى المصيطبة. هناك، وقفوا حاملين العلمين الشيوعي والفلسطيني وهتفوا: «يا للعار، يا للعار، عربي بيبني بالجدار».
أصيب خلال الاشتباك عدد من الأشخاص، كان من بينهم فتاتان نقلتا إلى المستشفى لتلقي العلاج. كسرت يد واحدة منهما بعدما ضربها عنصر في الجيش اللبناني، ونُقلت إلى مستشفى بيروت الحكومي، ومن هناك إلى مستشفى الزهراء.
أما الثانية فتلقّت ضربة على رأسها بهراوة أحد رجال الأمن، فُتح رأسها إثر الضربة، سقطت على الأرض فنقلت إلى مستوصف النجدة الشعبية للمعالجة. ذكرت إحدى الفتاتين لـ«الأخبار»، وهما طالبتان جامعيتان، أن التظاهرة كانت بهدف التعبير الرمزي عن رفض ما يجري على الحدود مع قطاع غزة لأنه ظلم بحق شعب بأكمله، لافتة إلى أن من الطبيعي أن يحصل بعض التدافع بين المتظاهرين والقوى الأمنية في أي تظاهرة، لكنها استنكرت رد الفعل العنيف الذي لجأ إليه كل من عناصر الجيش وقوى الأمن. اختلفت الشعارات وبدلاً من التنديد بالحكومة المصرية غضب المعتصمون على القوى الأمنية
أحد المشاركين في التظاهرة ذكر أن رد فعل الجيش كان عنيفاً. وذكر الشاهد نفسه أنه كان يفترض بالقوى الأمنية أن لا تتجاوز نقطة تمركزها، ناقلاً أنه تعرّض للضرب المبرح على يد ثلاثة من عناصر الجيش كانوا يكيلون الشتائم له ولأحد المصوّرين التلفزيونيين الذي كان موجوداً. وذكر أن أحدهم ضربه بعقب البندقية على وجهه.
ورغم المواجهات التي تخلّلت الاعتصام، إلا أن من شاركوا فيه لم يستسلموا، بل رأوا أن «مسيرتنا قد بدأت لتوّها». فمنذ أمس، عمّمت على موقع «فايسبوك» دعوة للمشاركة مساء اليوم عند الساعة السادسة والنصف مساء في بيت زيكو ـــــ الصنائع، لـ«نثبت أننا نرفض ما يحاول النظام المصري والنظام اللبناني والأنظمة العربية مجتمعة القيام به من منع شعوبهم من التضامن مع رفاقنا في فلسطين. اليوم مهمتنا هي التعبئة والتنظيم لتحركات أكثر وأكبر».
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية